إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

كشف الريبة في احكام الغيبة

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كشف الريبة في احكام الغيبة

    الفصل السادس: البيئة

    البيئة


    تمهيد:

    يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيه ِإلّابِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾1.

    لقة امتنّ الله تعالى على العباد في هذه الآيات ببعض ما أنعمه عليهم، وهو شيء قليل جدًّا لا يعدّ أمام نعمه التي لا تحصى ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾2.

    لكنّ الآية الكريمة أشارت لنوع خاصّ، من النعم، التي خصّها الله تعالى لكي يستفيد منها الإنسان، فعدّ سبحانه وتعالى في أوّل الآية الحيوان الذي يستفاد من لحمه ووبره، ومن ظهره لقطع المسافات،

    87

    وبعد ذلك ذكر سبحانه الزرع والشجر على أصنافه، أي ما يؤكل منه في الطعام، أو يتفكّه به من الفاكهة.

    كلّ هذا لأجل هذا الإنسان، ولكي يكتفي منها بما يقيم أوده، ويهدّئ من قلق نفسه التوّاقة للكمال دائماً.

    لكنّ السؤال الذي ينبغي أن يطرح في المقام هو: ماذا فعل الإنسان في مقابل هذه النعم؟

    وهل أدّى شكرها بالشكل الكامل؟

    وهل للشرع المقدّس توجيهات تختصّ بهذه النعم؟

    هذه الأسئلة وغيرها سنشير إليها باختصار، سائلين الله تعالى أن يوفّقنا لأداء حقّ شكره.


    الإنسان والبيئة

    أنيط بالإنسان خلافة الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾3. ومعنى الاستخلاف هو أنّ الإنسان وصيّ على هذه البيئة (الأرض)، ومستخلف على إدارتها وإعمارها وأمين عليها، ومقتضى هذه الأمانة أن يتصرّف في ما استخلف فيه تصرّف الأمين عليها، من حسن استغلالها وصيانتها والمحافظة عليها.

    ولكنّ الإنسان لم يحسن حفظ الأمانة التي استخلف عليها، وفرّط بها عبر التاريخ، من خلال إفساده فيها، قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلّا قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا

    88

    مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾4.

    وقال تعالى في آية أخرى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾5.

    فأحرق الإنسان الغابات، وأرسل قمامته إلى المياه التي جعلها الله تعالى لكلّ الكائنات، وسلّط المياه الفاسدة إلى الينابيع العذبة، واستخدم النفط الذي هو من الكنوز، في الصناعات التي تلوّث الهواء الذي يتنفّس منه، إلى ما لا يعدّ ويحصى من أسباب التلوّث، في مقابل ما لا يحصى من النعم!

    وبناءً على هذه العلاقة الجدليّة بين الإنسان والطبيعة أو البيئة، كان لا بدّ إذاً من اشتمال هذا الدين على أحكام للبيئة، لأنّها من الأمور التي تشكّل طرفاً في العلاقات مع الإنسان محور التشريع.


    الدين والبيئة

    دعا الدين الإسلاميّ الحنيف إلى نبذ الإسراف ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾6، وقال تعالى في مورد آخر: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾7.

    ودعا الإسلام أيضاً إلى سلوك الطريق الوسطى، فلا إفراط ولا تفريط، وهو مبدأ عامّ لا يختصّ في جانب معيّن، وإنّما نهى الإسلام

    89

    عن الإسراف لما فيه من أضرار كثيرة، وهو كلّ سلوك يتعدّى الحدود المعقولة والمقبولة، وبخصوص موضوع البيئة، فإنّه يتمثّل في الإستخدام المفرط لموارد البيئة، بما يشكّل خطراً وضرراً على البيئة ومواردها.

    والحقّ أنّ الإسراف في استخدام موارد البيئة قد يهدّد البشرية بأخطار كثيرة؛ فمثلاً الإسراف في قطع الأشجار والنباتات، أدّى إلى مثل جرف التربة والفيضانات العنيفة، وانتشار التصحّر في المناطق التي كانت مغطّاة بنضرة الأشجار الخضراء، ممّا أدّى إلى الإختلال في دورة الأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون وغير ذلك. والقرآن الكريم دعا من خلال هذه الآيات المباركة إلى الاعتدال والوسطيّة، أي الإستخدام الراشد والإستثمار دون استنزاف، لأنّ الله جعل لكلّ شي‏ءٍ قدراً، ومنها البيئة لأنّها محدودة في قدراتها وثرواتها، والموازنة بين القدرة الإنتاجيّة للبيئة وبين النموّ السكانيّ، والموازنة بين الأعمال اللازمة لإشباع احتياجاته المتسارعة، وبين المحافظة على البيئة سليمة خالية من العطب والخلل، فلا تعني حماية البيئة أن نترك كنوز الأرض في مواقعها، ولا التحريم المطلق للاستفادة من ثروات الأرض الحيوانيّة والنباتيّة؛

    ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾8، بل تعني الاستفادة دون إسراف، لأنّ البيئة ليست ملكاً لجيلٍ بعينه يتصرّف بها كيف يشاء، بدون مراعاة لمن سيأتي من بعده، بل هي ميراث البشريّة جمعاء.

    90

    كيف نحافظ على البيئة؟

    سنشير إلى بعضٍ من التعاليم التي أرشدنا الدين الحنيف إليها، لكي نحافظ على ما متّعنا الله تعالى به من النعم، ومن هذه التعاليم:

    1- الحفاظ على الثروة النباتيّة:

    فقد حثّ الإسلام على زراعة الشجر وبارك الزارع، ففي الرواية روي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال لرجل سأله فقال له: جعلت فداك أسمع قوماً يقولون إنّ الزراعة مكروهة، فقال: "إزرعوا واغرسوا، فلا والله ما عمل الناس عملاً أجلّ ولا أطيب منه"9.

    وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لمّا هبط بآدم إلى الأرض، احتاج إلى الطعام والشراب، فشكا ذلك إلى جبرئيل عليه السلام فقال له جبرئيل: يا آدم كن حرَّاثاً"10.

    وروي أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال: "الكيمياء الأكبر الزراعة"11.

    وبارك أئمّة أهل البيت عليهم السلام المزارعين وذكروا فضلهم، ففي الرواية: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الزارعون كنوز الأنام، يزرعون طيّباً أخرجه الله عزّ وجلّ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلة، يُدعون المباركين"12.

    وكما حثّ الإسلام على الزراعة، نهى عن قطع الأشجار، بل كانت الأوامر الصريحة تصدر من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لقوّاده وجيشه، تنهاهم عن قطع الأشجار أو إتلافها، وضرورة المحافظة عليها "ولا تقطعوا شجراً

    91

    إلّا أن تضطرّوا إليها"13، ونتيجة إغفال الإنسان لهذه التوجيهات، وإفراطه في بناء مدنيّته على حساب الموجودات الطبيعيّة لهذه العناصر الضروريّة للحياة، ازداد التلوّث.

    2- الحفاظ على الثروة الحيوانيّة:

    وعندنا من النصوص والأحكام ما يكفي لإلقاء الضوء على مدى العناية بهذه الثروة، كتحريم صيد اللهو الذي يشكّل هدراً وإتلافاً للثروة الحيوانيّة من دون مسوّغ، وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين، أيقصّر في صلاته أم يتمّ؟ فقال: "إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصّر، وإن خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة"14.

    بل نهت الرواية حتّى عن قتل العصفور بدون حاجة لأكله, فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من دابّة - طائر ولا غيره - تُقتل بغير الحقّ، إلّا ستخاصمه يوم القيامة"15.

    3– الحفاظ على الثروة المائيّة:

    يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَنَّا صببنا الماء صبّاً * ثم شققنا الأرض شقاً *فأنبتنا فيها حبّاً * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وزيتوناً ونخلاً * وحدائق غلباً * وفاكهة وأبّاً * متاعاً لكم ولأنعامكم﴾16.

    فالعلاقة واضحة بين الماء وإنبات النبات، ولا شكّ أن قلّة الماء تؤثّر سلباً على نموّ النبات، وبالتالي على حياة الحيوان، فالواجب

    92

    يقتضي الحفاظ على هذا الماء وعدم الإسراف في استخدامه، والمحافظة أيضاً على نظافته ونقائه من كلّ أنواع التلوّث، فمنع إلقاء الأقذار الإنسانيّة قريباً من مجاري المياه، كما روي عن أبي عبد الله عليه السلام، وأبو الحسن موسى عليه السلام قائم وهو غلام، فقال له أبو حنيفة: يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟

    فقال: "إجتنب أفنية المساجد، وشطوط الأنهار، ومساقط الثمار، ومنازل النزّال، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول، وارفع ثوبك، وضع حيث شئت"17.

    وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُتغوّط على شفير بئر ماء يُستعذب منها، أو نهر يُستعذب، أو تحت شجرة فيها ثمرتها"18.


    خاتمة:

    إنّ الإنسان وأعماله هو التهديد الأكبر للبيئة، فلو كففنا أذى الإنسان عنها لكانت بألف خير، فالبيئة في نفسها لا تتسبّب بالأذى للإنسان، ليقدم بدوره على مجازاتها بهذه الطريقة.

    فلو اتّبعنا إرشادات الإسلام، والتي أوصت بالحفاظ على البيئة، لوصلنا لغاية المنى في هذا المضمار، ولتفوّقنا على كلّ أدعياء الحضارة والتقدّم.

    إنّ وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي هي أساس بقاء واستمرار المجتمعات الدينيّة، لها الدور الأكبر في التوعية والحفاظ على النعمة الإلهيّة، لهذا علينا التأكيد دوماً على هذه الفريضة وعدم تركها، سيّما في هذه الموراد المنسيّة في غالب الأحيان.

    93

    هوامش

    1- النحل:5 – 11.
    2- إبراهيم: 34.
    3- البقرة: 30.
    4- هود: 116.
    5- الروم: 41.
    6- الأنعام: 141
    7- الأعراف: 31
    8- الأعراف: 32.
    9- الكافي- الكليني - ج 5 ص260.
    10- م. ن. ج 5 ص260.
    11- م. ن. ج 5 ص261.
    12- م. ن. ج 5 ص261.
    13- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 15 ص 58.
    14- م. ن. -ج 8 ص 480.
    15- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - الحد

    يث 4536.
    16- عبس: 25- 32.
    17- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 1 ص 325.
    18- م. ن. - ج 1 ص 325.



    يتبع

  • #2
    الفصل الثاني: في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

    إعلم أن مساوىء الأخلاق كلَّها إنَّما تُعالَج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كلِّ علَّةٍ بمضادّ سببها.

    فلنبحث عن سبب الغيبة أولاً ثم نذكر علاج كفّ اللسان عنها على وجهٍ يناسب علاج تلك الأسباب.

    فنقول جملة ما ذكروه من الأسباب الباعثة على الغيبة عشرة أشياء قد نبَّه الصادق عليه السلام إليها إجمالاً بقوله: "أصل الغيبة يتنوّع بعشرة أنواع: 1 ــ شفاء غيظ، 2 ــ ومساعدة قوم، 3ــ وتصديق خبر بلا كشفه، 4ــ وتهمة، 5ــ وسوء ظنّ، 6ــ وحسد، 7ــ وسخرية، 8ــ وتعجّب، 9ــ وتبرّم، 10ــ وتزيّن"1.

    ونحن نشير إليها مفصَّلة:

    الأول: تشفّي الغيظ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه

    31

    فإذا هاج غضبه يشفى بذكر مساويه وسبق اللسان إليه بالطّبع إن لم يكن ديِّن ورِعٌ، وقد يمتنع من تشفّي الغيظ عند الغضب فيتحقَّق في الباطن فيصير حقداً ثابتاً فيكون سبباً دائماً لذكر المساوىء. فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.

    الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنَّهم إذا كانوا يتفكَّهون بذكر الأعراض فيرى أنَّه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظنّ أنَّه مجاملة في الصُّحبة، وقد يُغضِب رفقاءه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم اظهاراً للمساهمة في السرَّاء والضرَّاء فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوىء.

    الثالث: أن يستشعر من إنسان أنَّه سيقصده ويطول لسانه فيه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر قبل ذلك ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته وفعله أو يبتدي بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد به فيقول ما من عادتي الكذب فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت.

    الرابع: أن يُنسب إليه شيءٌ فيريد أن يتبرأ منه، فيذكر الذي فعله وكان من حقِّه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعله ولا ينسب غيره إليه أو يذكر غيره بأنَّه كان مشاركاً له في الفعل ليمهِّد بذلك عذر نفسه في فعله.

    32

    الخامس: إرادة التصنّع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول: فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف، وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أفضل منه أو يحذر أن يعظّم مثله تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

    السادس: الحسد، وهو أنَّه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبّونه ويكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً إليه إلاَّ بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفُّوا عن إكرامه والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع ثناء الناس عليه وإكرامهم له، وهذا هو الحسد وهو عين الغضب والحقد والحسد، وقد يكون مع الصديق المحسن والقريب الموافق.

    السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة والتعجّب.

    الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له، فإنَّ ذلك قد يجري في الحضور فيجري ايضاً في الغيبة ومنشؤُه التكبّر واستصغار المستهزَء.

    التاسع: وهو مأخذ دقيق ربَّما يقع فيه الخواصّ وأهل الحذر من مزالّ اللسان، وهو أن يغتمّ بسبب ما يبتلي به أحد فيقول: يا مسكين فلان قد غمّني أمره وما ابتُليَ بهِ، ويذكر سبب الغمّ فيكون صادقاً في اغتمامه ويلهيه الغمّ عن الحذر

    33

    من ذكر اسمه فيذكره بما يكرهه فيصير به مُغتاباً، فيكون غمّه ورحمته خيراً، ولكنَّه ساقه إلى شرّ من حيث لا يدري، والترحّم والتغمّم ممكن من دون ذكر اسمه ونسبته إلى ما يكره فيُهيّجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحّمه.

    العاشر: الغضب لله تعالى، فإنَّه قد يغضب على منكر قارفه انسان فيظهر غضبه ويذكر اسمه ليبطل به على غير وجه النّهي عن المنكر، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصَّة وهذا ممَّا يقع فيه الخواص أيضاً فإنهم يظنّون أن الغضب إذا كان لله تعالى كان عُذراً كيف كان وليس كذلك.

    إذا عرفت هذه الوجوه التي هي أسباب الغيبة، فاعلم أن الطريق في علاج كفّ اللسان عن الغيبة يقع على وجهين:

    أحدهما: على الجملة والآخر على التفصيل.

    أمَّا على الجملة، فهو أن يعلم تعرّضه لسخط الله تعالى بغيبته كما قد سمعته في الأخبار المتقدمة وان يعلم أنَّه (أنَّها) تحبط حسناته، فإنَّها تنقل في القيامة حسناته إلى من اغتابه بدلاً عمَّا أخذ من عرضه فإن لم يكن له حسنات نقل إليه من سيِّئاته وهو مع ذلك متعرّضٌ لمقت الله تعالى ومشبّه عنده بأكل الميتة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد"2.

    34

    ورُويَ أن رجلاً قـال لبعض الفضـلاء: بلغـني أنَّك تغتابني، فقال: ما بلغ من قدرك عندي أن أحكّمك في حسناتي فمهما آمن العبد بما وردت به الأخبـار لـم ينطلـق لسانـه بالغيبة خوفاً من ذلك، وينفعه ايضاً أن يتدبَّر في نفسه فإن وجد فيها عيباً فينبغي أن يستحيي من أن يترك نفسه ويذمَّ غيره، بل ينبغي أن يعلم أنَّ عجز غيره عن نفسه في التنزُّه عن ذلك العيب كعجزه إن كان ذلك عيبـاً يتعلَّـق بفعلـه واختياره، وإن كان أمراً خلقيَّاً فالذمّ له ذمّ للخالق، فإنَّ مـن ذمَّ صنعـةً فقد ذمَّ الصانع.

    قال رجل لبعض الحكماء: يا قبيح الوجه، فقال: ما كان خلق وجهي إليَّ فأحسّنه. وإن لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله ولا يتلوَّث نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب فيصير حينئذٍ ذا عيب، بل لو أنصف نفسه لعلم أن ظنَّه بنفسه أنه بريء من كلّ عيبٍ جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب.

    وينفعه أن يعلم أنَّ تألّم غيره بغيبته كتألّمه بغيبة غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتابَ فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه.
    فهذه معالجات جميلة.

    وأما التفصيل فهو أن ينظر إلى السبب الباعث له على الغيبة ويعالجه، فإنَّ علاج العلَّة بقطع سببها.

    وقد عرفت الأسباب الباعثة.

    35

    أما الغضب فيعالجه بأن يقول: إن أمضيت غضبي عليه لعلَّ الله تعالى يمضي غضبه عليَّ بسبب الغيبة إذ نهاني عنها فاستجرأت على نهيه واستخففت بزجره، وقد قال عليه السلام : "إنَّ لجهنَّم باباً لا يدخلها إلاَّ من شفى غيظه بمعصية الله تعالى"3.

    وقال عليه السلام "من اتَّقى ربَّه كلّ لسانه ولم يشف غيظه"4.

    وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "مَن كَظمَ غيظاً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتَّى خيَّرهُ الله من أيّ الحور العين شاء"5.

    وفي بعض كتب الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق6.

    وأمَّا الموافقة فبأن تعلم أنَّ الله تعالى يغضب عليك إذا طلبت سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقّر غيرك وتحقّر مولاك فتترك رضاه لرضاهم إلاَّ أن يكون غضبُك لله تعالى، وذلك لا يوجب أن تذكر المغضوب عليه بسوءٍ، بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً لرفقائك إذا ذكروه بالسوء فإنَّهم عصوا ربّك بأفحش الذُّنوب وهو الغيبة.

    36

    وأمَّا تنزيه النفس بنسبة الخيانة إلى الغير حيث يستغني عن ذكر الغير فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشدّ من التعرّض لمقت الخلق، وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى يقيناً ولا تدري أنَّك تتخلّص من سخط الناس أم لا فتخلّص نفسك في الدُّنيا بالتوهّم وتهلك في الآخرة أو تخسر حسناتك بالحقيقة وتحصّل ذمّ الله نقداً وتنتظر رفع ذمّ الخلق نسيةً وهذا غاية الجهل والخذلان.

    وأمَّا عُذْرك كقولك إن أكلتُ الحرام ففلان يأكل، وإن فعلتُ كذا ففلان يفعل كذا، وإن قصّرت في كذا من الطاعة ففلان مقصّر، ونحو ذلك فهذا جهل لأنَّك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به، فإن من خالف أمر الله لا يُقتدى به كائناً من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته سفه عقلك، فما ذكرته غيبةً وزيادة معصيةٍ أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجّلك مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغَباوتك، وكنتَ كالشَّاة تنظر إلى العنز تردّى نفسه من الجبل فهي أيضاً تردّى نفسها ولو كان لها لسان وصرّحت بالعذر وقالت العنز أكيس منّي وقد أهلك نفسه فكذا فعل لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها. ثم لا تتعجّب ولا تضحك من نفسك.

    وأمَّا قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك، فينبغي أن تعلم أنَّك بما ذكرته أبطلت فضلك عند

    37

    الله وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك تثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوق وهماً ولو حصل لك من المخلوق اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئاً.

    وأمَّا الغيبة للحسد، فهو جمع بين عذابين لأنَّك حسدته على نعمة الدنيا وكنت معذّباً بالحسد فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة فكنت خاسراً في الدُّنيا فجعلت نفسك خاسرة في الآخرة لتجمع بين النّكالين فقد قصدت محسودك وأصبت نفسك وأهْدَيت إليه حسنتك فأنت إذاً صديقه وعدو نفسك إذ لا تضرّه غيبتك وتضرّك وتنفعه إذ تنقل إليه حسنتك أو تنقل إليك سيّئته ولا تنفعك، وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة، وربَّما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك، فقد قيل: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أناح لها لسان حسود.

    وأمَّا الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله وعند الملائكة والنبيين، فلو تفكَّرت في خزيك وحيائك وحسرتك وخجلتك يوم تحمل سيّئات من استهزأت به وتُساق إلى النار لأدهشك ذلك عن اخزاء صاحبك، ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منه، فإنَّك سخرت به عند نفر قليل وأعرضت نفسك لأن يأخذ بيدك يوم القيامة على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيّئاته كما

    38

    يساق الحمار الى النار مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك ومسروراً بنصرة الله إيَّاهُ وتسليطه على الانتقام.

    وأمَّا الرحمة له على إثمه فهو حسن، ولكن حسدك إبليس واستنطقك بما تنقل من حسناتك إليه مما هو أكثر من رحمتك فيكون جبراً لإثم المرحوم ليخرج عن كونه مرحوماً وتنقلب أنت مستحقَّاً لأن تكون مرجوماً إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك. وكذلك الغضب لله لا يوجب الغيبة فإنَّما حبّب الشيطان إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك وتصير معرضاً لغضب الله تعالى بالغيبة.

    وبالجملة فعلاج جميع ذلك المعرفة والتحقيق لها بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكفَّ عن الغيبة لا محالة.

    39

    هوامش

    1- مصباح الشريعة، ص502.
    2- إحياء علوم الدين، ج3، ص041.
    3- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
    4- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
    5- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
    6- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.





    يتبع

    تعليق


    • #3
      الفصل الثالث: في الأعذار المرخّصة في الغيبة

      إعلم أنَّ المُرخَّص في ذكر مساءة الغير هو غرض صحيح في الشّرع لا يمكن التوصّل إليه إلاَّ به فيدفعُ ذلك إثم الغيبة وقد حصروها في عشرة:

      الأول: التظلّم، فإنَّ من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً، فأما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلّم إلى من يرجو منه إزالة ظلمه وينسب القاضي إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقّه إلاَّ به.

      وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : "لصاحب الحقّ مقال"1.

      وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "مطل الغنيّ ظلم"2.

      وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "مطل الواجد يحلّ عرضه وعقوبته"3.

      41

      الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر وردّ العاصي إلى منهج الصلاح، ومرجع الأمر في هذا الى القصد الصحيح فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراماً.

      الثالث: الاستفتاء كما تقول للمفتي قد ظلمني أبي أو أخي فكيف طريقي في الخلاص.

      والأسلم هنا التعريض بأن تقول ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه.

      وقد رُويَ أنَّ هنداً قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ أبا سُفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، أفآخذ من غير علمه؟ فقال: خذي ما يكفيكِ وولدك بالمعروف4. فذكرت الشحّ لها وولدها ولم يزجرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان قصدها الاستفتاء.

      الرابع: تحذير المسلم من الوقوع في الخطر والشرّ ونصح المستشير، فإذا رأيت متفقّهاً يتلبّس بما ليس من أهله فلك أن تنبّه الناس على نقصه وقصوره عمَّا يؤهّل نفسه له وتنبّههم على الخطر اللاحق لهم بالإنقياد إليه. وكذلك إذا رأيت رجلاً متردّداً إلى فاسق يُخفي أمره وخفت عليه من الوقوع بسبب الصُّحبة في ما لا يوافق الشرع، فلك أن تنبّهه على فسقه مهما كان الباعث لك الخوف على افشاء البدعة وسراية الفسق وذلك موضع الغرور والخديعة من الشيطان إذ قد

      42

      يكون الباعث لك على ذلك هو الحسد له على تلك المنزلة فيلبّس عليك الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق. وكذلك إذا رأيت رجلاً يشتري مملوكاً وقد عرفت المملوك بعيوبٍ منقصةٍ فلك أن تذكرها للمشتري فإنَّ في سكوتك ضرراً للمشتري، وفي ذكرك ضرراً للعبد، لكنَّ المشتري أولى بالمراعاة ولتقتصر على العيب المنوط به ذلك الأمر فلا تذكر في عيب التزويج ما يخلّ بالشركة والمضاربة أو السفر مثلاً بل تذكَّر في كلِّ أمر ما يتعلَّق بذلك الأمر ولا يتجاوزه قاصداً نصح المستشير لا الوقيعة، ولو علم أنه يترك التزويج بمجرَّد قوله لا يصلح لك فهو الواجب، فإن علم أنَّه لا ينزجر إلاَّ بالتصريح بعيبه فله أن يصرّح به.

      قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "أترعون عن ذكر الفاجر حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه يحذره الناس"5.

      وقال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بنت قيس حين شاورته في خطَّابها: "أمَّا معاوية فرجل صعلوك لا مال له، وأمَّا أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه"6.

      الخامس: الجرح والتعديل للشاهد والراوي، ومن ثم وضع العلماء كتب الرجال وقسّموهم إلى الثقات والمجروحين وذكروا أسباب الجرح غالباً.

      43

      ويشترط إخلاص النصيحة في ذلك كما مرَّ بأن يقصد في ذلك حفظ أموال المسلمين وضبط الألسنة وحمايتها عن الكذب، ولا يكون حامله العداوة والتعصّب.

      وليس له إلاَّ ذكر ما يخلّ بالشهادة والرواية منه ولا يتعرّض لغير ذلك مثل كونه ابن ملاعنة أو شبهة، اللهمَّ إلاَّ أن يكون متظاهراً بالمعصية كما سيأتي.

      السادس: أن يكون المقول فيه مستحقاً لذلك، لتظاهره بسببه كالفاسق المتظاهر بفسقه بحيث لا يستنكف من أن يذكر بذلك الفعل الذي يرتكبه فيذكر بما هو فيه لا بغيره.

      قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له"7، وظاهر الخبر جواز غيبته وإن استنكف من ذكر ذلك الذنب، وفي جواز اغتياب مطلق الفاسق احتمال ناشىء من قوله لا غيبة لفاسق8.

      ورُدَّ بمنع أصل الحديث وبحمله على فاسق خاصّ أو بحمله على النهي وإن كان بصورة الخبر.

      وهذا هو الأجود، إلاَّ أن يتعلَّق بذلك غرض دينيّ ومقصد صحيحٌ يعود على المغتاب بأن يرجو ارتداعه عن معصيته بذلك فيلحق بباب النهي عن المنكر.

      السابع: أن يكون الانسان معروفاً باسم يعرب عن عيبه

      44

      كالأعرج والأعمش فلا اثم على من يقول ذلك، وقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف، ولأنَّه صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به.

      والحقّ أنَّ ما ذكره العلماء المعتمدون من ذلك يجوز التعويل فيه على حكايتهم.

      وأمَّا ذكره عن الاحياء فمشروط بعلم رضا المنسوب إليه لعموم النهي، وحينئذٍ يخرج عن كونه غيبة. وكيف كان فلو وجد عنه معدلاً وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى.

      الثامن: لو اطَّلعَ العدد الذين يثبت بهم الحد والتعزير على فاحشةٍ جاز ذكرها عند الحكَّام بصورة الشهادة في حضرة الفاعل وغيبته ولا يجوز التعرّض إليها في غير ذلك إلاَّ أن يتَّجه فيه أحد الوجوه الأخر.

      التاسع: قيل إذا علم اثنان من رجل معصية شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز لأنه لا يؤثّر عند السامع شيئاً وإن كان الأولى تنزيه النفس واللسان عن ذلك لغير غرض من الأغراض المذكورة خصوصاً مع احتمال نسيان المقول له لتلك المعصية أو خوف اشتهارها عنهما.

      العاشر: إذا سمع أحد مُغتاباً لآخر وهو لا يعلم استحقاق المقول عنه للغيبة ولا عدمه، قيل لا يجب نهي القائل لإمكان استحقاق المقول عنه فيُحمل فعل القائل على الصحة ما لم

      45

      يعلم فساده لأنَّ ردعه يستلزم انتهاك حُرمته وهو أحد المحرّمين. والأولى التنبيه على ذلك إلاَّ أن يتحقق المخرج منه لعموم الأدلَّة وترك الاستفصال فيها، وهو دليل إرادة العموم حذراً من الاغراء بالجهل، ولأن ذلك لو تمَّ لتمشَّى في من تعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة الى السامع لاحتمال اطلاع القائل على ما يوجب تسويغ مقاله وهو يهدم قاعدة النهي عن الغيبة. وهذا الفرد يُستثنى من جهة سماع الغيبة، وقد تقدَّم أنه أحد الغيبتين.

      وبالجملة فالتحرّز عنها من دون وجه راجح في فعلها فضلاً عن الإباحة أولى لتتّسِمَ النفس بالأخلاق الفاضلة.

      ويؤيّده اطلاق النهي في ما تقدَّم كقوله صلى الله عليه وآله وسلم :أتدرون ما الغيْبَة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم : "ذكرك أخاك بما يكرهه"9.

      وأمَّا مع رجحانها كردّ المبتدعة واخزاء الفسقة منهم والتنفير منهم والتحرّز من إتباعهم، فذلك يوصف بالوجوب مع امكانه فضلاً عن غيره والمعتمد في ذلك كلّه على المقاصد فلا يغفل المستيقظ عن ملاحظة مقصده وإصلاحه، والله الموفق.

      46

      هوامش

      1- إحياء علوم الدين، ج3، ص441.
      2- العوالي، ج4، ص27، ح54.
      3- إحياء علوم الدين،ج3، ص441.
      4- إحياء علوم الدين، ج3، ص441.
      5- إحياء علوم الدين، ج3، ص441.
      6- العوالي، ج1، ص834، ح551.
      7- العوالي، ج1، ص772، ح501.
      8- العوالي، ج1، ص834، ح351.
      9- تنبيه الخواطر، ج1، ص811.



      يتبع

      تعليق


      • #4
        الفصل الرابع: في ما يلحق بالغيبة عند التدبّر
        وله اسمٌ خاصٌ وقد تعلَّق به نهي خاصّ لما عرفت أنَّ الغيبة تطلق على ذكر ما يسوء الغير ذكره ويكرهه ولا يؤثره، وعلى التنبيه عليه بمكاتبة وإشارة وغيرهما، وعلى حديث النفس به وعقد القلب عليه وإن لم يذكره ودخل في هذا التعريف أفرادٌ أُخر من المواضع المحرَّمة على الخصوص وهي أُمور:
        أحدها: النميمة، وهي نقل قول الغير الى المقول فيه كما تقول فلان تكلِّم فيك بكذا وكذا سواء كان نقل ذلك بالقول أو الكتابة أو الإشارة والرّمز وكان ذلك النقل كثيراً ما يكون متعلّقة نقصاناً أو عيباً في المحكيّ عنه موجباً لكراهته له وإعراضه عنه وكان ذلك راجعاً إلى الغيبة أيضاً فجمع بين معصية الغيبة والنميمة فلا جَرَمَ حَسُنَ في هذه الرسالة التنبيه على النميمة وما ورد فيها من النهي على الخصوص فإنَّها إحدى المعاصي الكبائر كما ستسمعه.
        47
        وثانيها: كلام ذي اللسانين الذي يتردّد بين المتخاصمين ونحوهما ويكلّم كلّ واحد منهما بكلامٍ يوافقه، فإنَّ ذلك مع ما ورد فيه من النهي الخاص يرجع إلى الغيبة بوجه ما، وإلى النميمة بوجه آخر، بل هو شرّ أقسام النميمة كما سيأتي من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "تجدون شرّ عباد الله يوم القيامة من يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء"1، فإنَّه كلام يكرهه كلُّ واحدٍ منهما لو بلغه، فإنَّ الانسان لا يحبّ من تكلَّم خصمه بما يرضيه ولا من يؤثر معه ما يبغيه بل هو معدود من جملة الأعداء فتعلّق الكراهة لذلك الكلام بكل منهما فلنتكلَّم فيه أيضاً على وجه الإيجاز ونذكر ما ورد فيه من النهي.
        وثالثها: الحسد وهو كراهة النعمة على الغير ومحبَّة زوالها على المنعم عليه، وهو مع كونه أيضاً من المحرَّمات الخاصة والمعاصي الكبيرة يرجع إلى الغيبة القلبيَّة بوجه لأنَّه حُكْم على القلب بشيءٍ يتعلَّق بالغير يكرهه لو سمعه أشدّ كراهة وأبلغها، فيجمع بين معصيتين: الحسد والغيبة.
        فلنذكر جملة من الكلام فيه وما ورد فيه من النهي بل هُوَ أوْلى الثلاثة بالذكر لكثرة وقوعه في هذا العصر وابتلاء الخواصّ به بل هو داؤهم ليس لهم عنه مناص وأولى ما يهتمّ
        48
        العاقل به دواء المرض الحاضر فيقع الكلام هنا في مقامات ثلاثة:
        الأوَّل: النّميمة، قال الله تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٍ﴾2.
        ثمَّ قال: ﴿عُتُلِّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾3.
        قال بعض العلماء: هذه الآية دلَّت على أنَّ من لم يكتم الحديث ومشى بالنميمة ولد زنا لأنَّ الزنيم هو الدعيّ.
        وقال الله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّـــمَزَةٍ﴾4، قيل الهمزة النمَّام.
        وقال تعالى عن امرأة نوح وامرأة لوط: ﴿ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين﴾5َ، قيل كانت امرأة لوط تخبر بالضّيفان وامرأة نوح تخبر بأنه مجنون.
        وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "لا يدخل الجنَّة نمَّام"6.
        وفي حديث آخر: "لا يدخل الجنَّة قتَّات"7، والقتَّات هو النمَّام.
        وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "أحبكم إلى الله تعالى أحسنكُم أخلاقاً الموطّؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإنَّ أبغضكم إلى الله تعالى المشَّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الاخوان، الملتمسون للبراء العثرات"8.
        49
        وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم : "المشَّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبَّة، الباغون للبراء العيْب"9.
        وقال أبو ذرّ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من أشار على مسلم بكلمة ليشينه بها بغير حقّ شانه الله تعالى في النار يوم القيامة"10.
        وقال أبو الدّرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدُّنيا كان حقَّاً على الله عزَّ وجلَّ أن يدينه بها يوم القيامة في النار"11.
        وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : "إنّ الله تعالى لمَّا خلق الجنَّة قال لها: تكلَّمي، قالت: سَعد من دخلني، قال الجبَّار جلَّ جلاله: وعزتي وجلالي لا يسكن فيكِ ثمانية نفر من الناس، لا يسكن فيك مدمن خمر، ولا مصرٌ على الزنا، ولا قتَّات (وهو النمَّام)، ولا ديّوث، ولا الشّرطيّ، ولا المخنَّث، ولا قاطع رحم، ولا الذي يقول عليَّ عهد الله إن لم أفعل كذا أو كذا ثمَّ لم يفِ به"12.
        وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: "الجنَّة محرَّمة على القتَّاتين المشَّائين بالنميمة"13.
        50
        وعن أبي عبدالله عليه السلام أنَّه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام : "شراركم المشَّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبَّة، المتّبعون للبراء المَعَايب"14.
        ورُويَ أنَّ موسى عليه السلام استسقى لبني إسرائيل حين أصابهم قحط، فأوحى الله تعالى إليه: لا أستجيبُ لك ولا لمن معك وفيكم نمَّام قد أصرَّ على النميمة، فقال موسى عليه السلام : من هو يا ربّ حتَّى نخرجه من بيننا؟ فقال الله: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نمَّاماً فتابوا بأجمعهم فسقوا15.
        ورُوي أن رجلاً تبع حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات، فلمَّا قدم عليه قال: إني جئتك للذي أتاك الله تعالى من العلم، أخبرني عن السماء وما أثقل منها، وعن الأرض وما أوسع منها، وعن الحجارة وما أقسى منها، وعن النار وما أحرّ منها، وعن الزّمهرير وما أبرد منه، وعن البحر وما أغنى منه، وعن اليتيم وما أذلّ منه.
        فقال الحكيم: البهتان على البريء أثقل من السماوات، والحقّ أوسع من الأرضين، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحرّ من النار، والحاجة إلى القريب إذا لم ينجح أبرد من الزمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجارة، والنمّام إذا بان أمرهُ أذلّ من اليتيم16.
        51
        واعلم أنَّ النميمة تُطلق في الأكثر على من ينمّ قول الغير إلى المقول فيه، كما يقول فلان كان يتكلَّم فيك بكذا وكذا وليست مخصوصة به بل تطلق على ما هو أعمّ من القـول، كما مرَّ في الغيبة وحدهـا بالمعنى الأعـمّ كشـف ما يكـره كشفه، سواءٌ كرهه المنقـول عنـه أم المنقـول إليـه أم كرهـه ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أم بالكتابة أم بالإشارة أم بالرّمز أم بالايماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أم من الأقوال، وسواء كان ذلك عيباً أو نقصاناً على المنقول عنه أم لم يكن، بل حقيقة النميمة إفشاءُ السرّ وهتك السـتر عمَّا يكره كشفه، بل كلّ ما رآه الانسان من أحوال الانسان فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية، كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاةً لحقّ المشهود عليه.
        وأمَّا إذا رآهُ يخفي مالاً لنفسه فذكره نميمة وافشاء للسرّ فإن كان ما ينمّ به نقصاناً أو عيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة.
        والسبب الباعث على النميمة إمَّا إرادة السوء بالمحكيّ عنه أو إظهار الحبّ للمحكيّ له أو التفرّج بالحديث أو الخوض في الفضول.
        وكلّ من حملت إليه النميمة وقيل له إن فلاناً قال فيك كذا وكذا أو فعل فيك كذا وكذا وهو يدبّر في إفساد أمرك أو في
        52
        ممالاة عدوّك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستّة أمور:
        الأول: أن لا يصدّقه لأنَّ النمَّام فاسق وهو مردود الشهادة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾17.
        الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبّح له فعله، قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالـْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْــمُنكَرِ﴾18.
        الثالث: أن يُبْغضه في الله تعالى فإنَّه يُبغض عند الله ويجب بغض من يُبْغضه الله تعالى.
        الرابع: أن لا تظنّ بأخيك السُّوء بمجرّد قوله لقوله تعالى: ﴿اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ﴾19، بل يثبّت حتَّى يتحقق الحال.
        الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسيس والبحث ليتحقّق قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُواْ﴾20.
        السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نَهيْتَ النمَّام عنه فلا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي بكذا فتكون به نمَّاماً ومُغتاباً وقد تكون أتيت بما نهيت عنه.
        53
        وقد رُويَ عن علي عليه السلام أنَّ رجُلاً أتاه يسعى إليه برجل، فقال: يا هذا نحن نسأل عمَّا قلت فإن كنت صادقاً مَقَتْنَاكَ، وإن كنت كَاذباً عاقَبناكَ، وإن شئت أن نقِيلكَ أَقَلناكَ، قال: أقلني يا أمير المؤمنين21.
        وقد تبعه في ذلك عمر بن عبدالعزيز، فقد روي أنه دخل إليه رجل فذكر عنده عن رجل شيئاً، فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية:
        ﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ﴾22، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿هَمَّازٍ مَّشََّّآءٍ بِنَمِيمٍ﴾23، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً24.
        وقد رُويَ أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه وأخبره بخبر عن غيره، فقال له الحكيم: قد أبطأْتَ في الزيارة، وأتيتني بثلاث خيانات: بغّضت إليَّ أخي، وشغلتَ قلبي الفارغ، واتّهمت نفسك الأمينة25.
        وروي أن بعض الخلفاء قال لرجل: بلغني أنَّك قلت فيَّ كذا وكذا، فقال الرجل: ما قلتُ وما فعلت، فقال: إنَّ الذي أخبرني صادق، فقال الزهري، وكان جالساً: لا يكون النمَّام صادقاً،
        54
        قال: صدقت اذهب بسلامة26، وقال الحسن: من نمَّ إليك نمَّ عليك27.
        وهذه إشارة إلى أنَّ النمَّام ينبغي أن يُبْغض ولا يوثق بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفكّ من الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغلّ والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة، وهو ممن قد سعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل، قال الله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ َوَيُفْسِدُونَ فِي الَأْرْضِ﴾28، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الَأرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ﴾29، والنمَّام منهم.
        وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "إنَّ من شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه"30، والنمَّام منهم.
        وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "لا يدخل الجنَّة قاطع"31، قيل: قاطع بين الناس، وهو النمَّام، وقيل: قاطع الرَّحم.
        وقال لقمان الحكيم لابنه: "يا بنيّ إنِّي موصيك بخلال إن تمسَّكت بهنَّ لم تزل سيداً، أبسط خلقك للقريب والبعيد،
        55
        وامسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك، وصِل أقاربك، وآمنهم من قبول ساعٍ أو سماع باغٍ يُريد إفسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك مَنْ إذا فارقتهم وفارقوك لم تغتبْهم ولم يغتابوك"32، وقال بعضهم: لو صحَّ ما نقله النمَّام إليك لكان هو المجري بالشّتم عليك والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يُقابلك بشتمك33.
        وبالجملة فشرّ النمَّام عظيم ينبغي أن يُتوقّى. قيل: باع بعضهم عبداً وقال للمشتري: ما فيه عيب إلاَّ النميمة، قال: رضيت به، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً ثم قال لزوجة مولاه: انّ زوجك لا يحبّك وهو يريد أن يتسرّى عليك، فخذي الموسى واحلقي من قفاه شعرات حتى أسحّر عليها فيحبّك، ثم قال للزوج: إنَّ امرأتك اتَّخذت خليلاً وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف، فتَناومَ، فجاءت المرأة بالموسى فظنَّ أنها تقتله فقام وقتلها، فجاء أهل المرأة وقتلوا الزوج فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر.
        المقام الثاني: كلام ذي اللسانين الذي يتردّد بين اثنين سيّما المتعاديين، ويكلّم كلّ واحدٍ منهما بكلام يوافقه، وقلّ ما يخلو عنه من يشاهد متعاديين، وذلك عين النفاق وهو من المعاصي الكبائر المتوعّد عليه بخصوصه.
        56
        وروى عمَّار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "من كان له وجهان في الدُّنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة"34.
        وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : "تجدون من شرّ عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء"35.
        وفي حديث آخر: "الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه"36.
        وقيل: مكتوب في التوراة: "بطلت الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين"37.
        وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "أبغض خلق الله إليه يوم القيامة الكذَّابون والمستكبرون والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم، فإذا لقوهُمْ تخلّقوا لهم، والذين إذا دُعوا إلى الله ورسوله كانوا بطاء وإذا دُعُوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً"38.
        وروى الصّدوق بإسناده إلى عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه، وآخر من قدَّامه يتلهّبان ناراً حتى يلتهبان جسده، ثم يُقال: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين وذا لسانين يُعرف بذلك يوم القيامة"39.
        57
        وبالاسناد إلى الباقر عليه السلام قال: "بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أُعطيَ حسدهُ وإن ابتلى خذله"40.
        وباسناده عنه عليه السلام قال: "بئس العبد عبد همزة لمزة، يقبل بوجه ويدبر بآخر"41.
        وبالإسناد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قال الله تعالى لعيسى بن مريم: يا عيسى ليكن لسانُك في السرّ والعلانية لساناً واحداً وكذلك قلبك، إنِّي أحذّرك نفسك وكفى بك خبيراً لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا سيفان في غمد واحد، ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الأذهان"42.
        واعلم أنَّ الإنسان يتحقّق كونه ذا لسانين بأموره:
        منها: أن ينقل كلام كلّ واحد إلى الآخر وهو مع ذلك نميمة وزيادة، فإنَّ النميمة تتحقق بالنقل من أحد الجانبين فقط.
        منها: أن يُحَسِّن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة من صاحبه وإن لم ينقل بينهما كلاماً.
        منها: أن يعد كلّ واحد منهما بأن ينصره ويساعده.
        منها: أن يُثني على كلّ واحد منهما في معاداته وأولى منه أن يثني عليه في وجهه، وإذا خرج من عنده ذمَّه، والذي ينبغي
        58
        أن يسكت أو يثني على الحقّ منهما في حضوره وغيبته وبين يدي عدوّه. ولا يتحقّق اللسانان بالدخول على المتعاديين ومجاملة كلّ واحد منهما مع صدقه في المجاملة، فإنَّ الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تصل الى حدّ الأخوّة إذ لو تحقّقت الصداقة لاقتضت معاداة العدوّ كما هو المشهور من أنَّ الأصدقاء ثلاثة: الصديق وصديق الصديق وعدوّ العدوّ والأعداء ثلاثة: العدوّ وعدوّ الصديق وصديق العدو43، فإن قيل كثيراً ما يتّفق لنا اختلاف اللسانين مع الأمراء وأعداء الدّين المتظاهرين، فهل يكون ذلك داخلاً في النهي والنفاق كما ورد من أنه سُئل بعض الصحابة إنَّا ندخل على أْمَرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره.
        قلنا: إن كان القائل مستغنياً عن الدخول على الأمير وعن مخالطة العدوّ للدّين واختار الاجتماع معه والصحبة له اختياراً طلباً للجاه والمال زيادة على القدر الضروري فهو ذو لسانين ومنافق كما ذكره الضحّاك وعليه يحمل الخبر.
        وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : "حبّ الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"44، وإن كان محتاجاً إلى ذلك اتّقاءً ضرورة فهو معذورٌ لا حرج عليه فيه فإن اتقاء الشرّ جائز.
        59
        قال أبو الدّرداء: إنَّا لنكثّر الضحك في وجوه أقوام وإنَّ قلوبنا لتبغضهم.
        وروي أنه مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بئس رجل العشيرة، فلمَّا دخل عليه أقبل عليه، فقيل له في ذلك، فقال: "إنَّ شرّ الناس الذي يُكْرَمُ اتّقاءً لشرّه"45.
        المقام الثالث: الحسد، وهو من أعظم الأدواء وأكبر المعاصي وأشرّها وأفسدها للقلب، وهي أوَّل خطيئة وقعت في الأرض لمَّا حسدَ إبليسُ آدمَ فحمله على المعصية، فكانت البليّة من ذلك إلى الأبد، وقد أمر الله نبيّه بالإستعاذة من شرّه، فقال: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد﴾46، بعد أن استعاذ من الشيطان والساحر وأنزله منزلتهما، والأخبار النبويَّة فيه لا تحصى كثرةً.
        قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"47.
        وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "ستَّة يدخلون النار قبل الحساب بستّة: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبيَّة، والدَّهاقين بالكبر، والتجَّار بالخيانة، وأهل الرّسْتاق بالجهل، والعلماء بالحسد"48.
        60
        وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنَّة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابّوا ألا أُنَبّئكم بما يثبت ذلك لكم، افشوا السلام"49.
        وفي خبر معاذ عنه صلى الله عليه وآله وسلم : "إنَّ الحفظة تصعد بعمل العبد تزفّ كما تزفّ العروس إلى أهلها، حتى إذا انتهوا إلى السماء الخامسة بذلك العمل الحسن من جهاد وحجّ وله ضوء كضوء الشمس فيقول الملك: أنا الملك صاحب الحسد إنّه كان يَحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله، ويسخط ما رضي الله، أمرني ربي أن لا أدع عمله يتجاوزني الى غيره"50.
        وقال الصادق عليه السلام : "الحاسد مضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بالمحسود، كإبليس أورث بحسده لنفسه اللعنة ولآدم الاجتباء والهدى والرّفع إلى محل حقائق العهد والاصطفاء، فكن محسوداً ولا تكن حاسداً، فإن ميزان الحاسد أبداً خفيفٌ يثقل ميزان المحسود، والرزق مقسوم فماذا ينفع الحسد الحاسد وماذا يضرّ المحسود الحسد، والحسد أصله من عمل القلب وجحود فضل الله وهما جناحان للكفر، بالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد وهلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً، ولا
        61
        توبة للحاسد لأنَّه مستمرّ عليه معتقد به مطبوع فيه يبدو بلا معارض به ولا سبب، والطّبع لا يتغيّر عن الأصل وإن عولج"51، وكفى بالحسد داءً ابلاغه العلماء النار كما ورد في الحديث السابق.
        واعلم أن الحسد يهيّج خمسة أشياء:
        أحدها: إفساد الطاعات، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "إنَّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"52.
        والثاني: فعل المعاصي والشّرور وقد قال بعض الفضلاء: للحاسد ثلاث علامات يتملّق إذا شهد ويغتاب إذا غاب ويشمت بالمصيبة. وحسبك أنَّ الله أمر بالاستعاذة من شرّه وقرنه بالشيطان، والساحر النافث في العُقد كما تقدَّم.
        والثالث: التّعب والغمّ من غير فائدة بل مع كلّ وزر ومعصية، قال بعضهم: لم أرَ ظالماً أشبه بالمظلوم من الحاسد، نفس دائمٌ وعقلٌ هائم وغمّ لازم.
        والرابع: الحرمان والخذلان، فلا يكاد يظفر بمراد ولا ينصر على عدوّ، وقد قيل: الحاسد غير منصور كيف يظفر بمراده، ومُراده زوال نعم الله عن عباده.
        وكيف ينصر على أعدائه وهم عباد الله الذين نظر الله إليهم وأسبغ نعمه عليهم سيّما إذا كانت النعمة نعمة العلم. والكلام في الحسد طويل
        62
        لاعتناء عُلماء القلوب به وبحثهم عنه وقوَّة دائه في قلوب الخاصة دون العامة.
        ولنقتصر هنا في البحث على مواضع:
        الأول: في حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه:
        فحقيقته انبعاث القوة الشهوية إلى تمنّي مال الغير أو الحالة التي هو عليها وزوالها عن ذلك الغير وهو مستلزم لحركة القوة الغضبيّة واثبات الغضب ودوامه وزيادته بحسب زيادة حال المحسود التي يتعلّق بها الحسد.
        ولذلك قال علي عليه السلام : "الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له"53، وهو نوع من أنواع الظلم والجور، وقال عليه السلام أيضاً: "لا راحة مع حسد"54، ووجهه قد ظهر من حقيقته، فإن شهوة الحاسد وفكره في كيفيَّة حصول حال المحسود فيها وفي كيفيَّة زوالها عمَّن هي له المستلزمة لحركة آلات البدن في ذلك المستلزمة لعدم الراحة.
        وقد اتَّفق العقلاء على أنَّ الحسد مع أنَّه رذيلة عظيمة للنّفس فهو من الأسباب العظيمة لخراب العالم إذ كان الحاسد كثيراً ما تكون حركاته وسعيه في هلاك أرباب الفضائل وأهل الشّرف والأموال الذين يقوم بوجودهم عمارة
        63
        الأرض إذ لا يتعلَّق الحسد بغيرهم من أهل الخسَّة والفقر، ثمَّ لا يقصر في سعيه ذلك دون أن تزول تلك الحالة المحسود بها عن المحسود، ويهلك هو في تلك الحركات الحسّية الفعليّة والقوليّة، ولذلك قيل: حاسد النعمة لا يرضيه إلاَّ زوالها55، وما دام الباعث في القوة الغضبية قائماً فهي قائمة متحرّكة ومحرّكة وكثيراً ما يؤثّر السعاية بين يدي الأمراء والمسلّطين لعلم الساعي بقدرتهم على تنفيذ أغراضه ولقرب طباعهم إلى قبول قوله من الغير لمشاركتهم في الطباع وغلبة القوى الشهوية والغضبية فيهم، ولكن كثيراً ما يؤثر حركة الحاسد في إزالة نعمة المحسود لمحة من لمحات الله للمحسود بعين العناية فيحرسهم ويزيد نعمتهم فلا يتوجّه للحاسد عليهم سبيل، وإنَّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحقّ فيصير بغيهم سبباً لخراب الأرض فيفسد الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد.

        يتبع

        تعليق


        • #5
          وإذ قد عرفت أنَّه لا حسد إلاَّ على نعمة فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
          إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحبّ زوالها، وهذه الحالة تسمّى حسداً.
          والثانية: أن لا تحبّ زوالها ولا تكره وجودها ودوامها
          64
          ولكنّك تشتهي لنفسك مثلها، وهذا يسمّى غبطة وقد يخصّ باسم المنافسة.
          قال الله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْــمُـتَنَافِسُونَ﴾56.
          وقد تسمّى المنافسة حسداً، والحسد منافسة كقول عبدالله الفضل وقثم ابني العباس لعلي عليه السلام حين أشار عليهما بأن لا يذهبا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسألانه الولاية على الصدقة، وقد كانا أرادا ذلك: ماذا منك إلاَّ منافسة، والله لقد زوّجك ابنته، فما نفسنا ذلك عليك57. وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "لا حسد إلاَّ في اثنين: رجل أتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحقّ ورجل أتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلّمه الناس"58، والمحرّم من الحالتين هو الحالة الأولى وهي المخصوصة بالذمّ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : "المؤمن يغبط والمنافق يحسد"59. اللهم إلاَّ أن يكون النعمة قد أصابها فاجر يستعين بها على إيذاء الخلق وتهييج الفتنة وفساد الدين ونحو ذلك، فلا تضرّ الكراهة لها ومحبّة زوالها إذا لم يكن ذلك من حيث إنَّها نعمة، بل من حيث إنَّها آلة الفساد، ويدلّ على عدم تحريم الحالة الثانية الآية المتقدّمة والحديث.
          65
          وقد قال الله تعالى: ﴿سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾60، والمسابقة إنما تكون عند خوف الفوت كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما ويخرج كلّ واحد منهما أن يسبق صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها، بل قد تكون المنافسة واجبة إذا كان المنافس فيه واجباً إذ لو لم يجب مثله كان راضياً بالمعصية المحرَّمة، وقد تكون مندوبة كالمنافسة في الفضائل المندوبة من انفاق الأموال ومكارم الأخلاق، وقد توصَفُ بالإباحة إذا كان مباحاً.
          وبالجملة فهي تابعة للفعل المنافس فيه ولكن في المنافسة دقةٌ وخطر غامض يجب على طالب الخلاص التحرّز منه وهو أنَّه إذا آيَس عن أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلّفه ونقصانه فلا محالة يُحبّ زوال النقصان وإنَّما يزول بأحد أمرين أن ينال مثله أو أن تزول نعمة المنافس، فإذا انسدّ أحد الطريقين عن الساعي يكاد القلب أن يشتهي الطريق الأخرى إذ بزوال النعمة يزول التخلّف المرغوب عنه فيمتحن نفسه.
          فإن كان بحيث لو ألقي الأمر إليه ورُدّ إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة فهو حسود حسداً مذموماً.
          وإن كانت التقوى تمنعه عن إزالة ذلك عفي عمَّا يجده في طبعه من ارتياحه الى زوال النعمة من (متى) كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله.
          66
          وإذ قد عرفت حقيقة الحسد، فاعلم أنَّ له مراتب أربع:
          الأولى: أن يحبّ زوال النعمة عنه وإن كانت لا تنتقل اليه وهذا غاية الخبث وأعظم افراد الحسد.
          الثانية: أن يحبّ زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة بحيث يكون مطلوبه تلك النعمة لا مجرّد زوالها عن صاحبها.
          الثالثة: أن لا يشتهي عينها بل يشتهي لنفسه مثلها، فإن عجز عن مثلها يحبّ زوالها كي لا يظهر التفاوت بينهما.
          وهذه الثلاثة محرَّمة وهي مترتّبة في القوة ترتّبها في اللفظ.
          الرابعة: أن يشتهي لنفسه مثلها فإذا لم يحصل فلا يحبّ زوالها منه.
          وهذا هو المحمود المخصوص باسم الغبطة، بل المندوب اليه في الدين ونسمّيه حسداً تجوّزاً.
          الثاني: في الأسباب المثيرة للحسد وهي كثيرة جداً إلاَّ أنها ترجع إلى سبعة:
          1 ـ العداوة، 2 ـ والتعزّز، 3 ـ والتكبّر، 4 ـ والتعجّب، 5 ـ والخوف من فوت المقاصد، 6 ـ وحبّ الرياسة، 7 ـ وخبث النفس وبُخلها.
          فإنه إنَّما يكره النعمة عليه:
          1 ـ إمَّا لأنه عدوّ فلا يريد له الخير، وهذا لا يختصّ بالأمثال.
          67
          2 ـ وإما لأنه يخاف أن يتكبّر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وعظمته لعزّة نفسه، وهو المراد بالتعزّز.
          3 ـ وإمَّا يكون في طبعه أن يتكبّر على المحسود ويمتنع ذلك عليه بنعمته، وهو المراد بالتكبّر.
          4 ـ وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب كبيراً فيتعجّب من فوز مثله تلك النعمة،وهو التعجّب.
          5 ـ وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتوصّل به إلى مزاحمته في اغراضه.
          6 ـ وإمَّا أن يكون يحبّ الرياسة التي تبتني على الاختصاص بنعمة لا تساوي فيها.
          7 ـ وإمَّا أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل بخبث النفس وشحّها بالخير لعباد الله.
          وقد أشار الله سبحانه الى السبب الأول بقوله: ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾61.
          وإلى الثانية بقوله: ﴿وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍٍ ِّمِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾62.
          أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتّبعه إذا كان عظيماً.
          وكانوا قد قالوا كيف يتقدَّم علينا غلام يتيمٌ وكيف نطأطئُ له رؤوسنا.
          68
          وإلى الرابعة بقوله: ﴿قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾63، ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾64، ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لــَّخَاسِرُونَ﴾65، فتعجّبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم وقالوا متعجبين: ﴿أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً﴾66، فقال تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾67.
          وأعظم الأسباب فساداً الخامس والسادس لتعلّقهما غالباً بعلماء السوء ونظرائهم. ومناط الخامس يرجع إلى متزاحمين على مطلوب واحد فإنّ كلاً منهما يحسد صاحبه في كلّ نعمة يكون عوناً له في الانفراد بمقصوده.
          ومن هذا الباب تحاسد الضرّات في التزاحم على مقاصدالزوجية، والأخّوة في التزاحم على نيل المنزلة المطلوبة بها عند الأب، والتلامذة لاستاذ واحد في نيل المنزلة عنده، والعالمين المتزاحمين على طائفة من المحصورين إذ يطلب كلّ واحد منزلة في قلبهم للتوصّل بهم إلى أغراضه. ومرجع السادس إلى محبَّة الإنفراد بالرياسة والاختصاص بالثناء والفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر ولا نظير له، فإنّه
          69
          متى سمع بنظير له في أقصى العالم أساءه ذلك وأحبَّ موته أو زوال النعمة التي بها يشاركه في المنزلة.
          وهذا زيادة على ما في قلوب آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس للتوصّل إلى مقاصد سوى الرياسة.
          وقد كان علماء اليهود يعلمون رسـالة رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينكرونها ولا يؤمنون به مخافة أن يبطل رياستهـم وأن يصيروا تابعين بعد أن كانوا متـبوعـين مهمـا نسـخ علمهـم. وقـد يجتمـع بعـض هـذه الأسبــاب أو أكثرهـا أو جميعهـا في شخص واحد فيعظـم فيـه داء الحسـد ويتمكَّن فـي قلبـه ويقــوى قــوَّة لا يقـــدر معـــه علــى الاخفـاء والمجـاملـة، بـل ينهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة ولا يكـاد يزول إلاَّ بالموت. وقلّ أن يتّفق بالحاسد سبب واحد من هذه الأسباب بل أكثر.
          وأصل العداوة والحسد التزاحم على غرضٍ واحد، والغرض الواحد لا يجتمع فيـه متباعـدان بـل متناسـبان فلذلك ترى الحسد يكثر بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العمّ والأقارب ويقلّ في غيرهم إلاَّ مع الاجتماع في أحد الأغراض المقرّرة، نعم من اشتدّ حرصه على الجاه وحبّ الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه، فإنه يحسد كلّ من هو في العالم وان يعدّ ممَّن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها.
          70
          ومنشأ جميع ذلك حبّ الدنيا فإنَّ الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين.
          أمَّا الآخرة فلا ضيق فيها وإنَّما مثلها مثل العلم، فإن من عرف الله تعالى وملائكته وأنبياءه وملكوت أرضه وسمائه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك ايضاً لأنَّ المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعروف الواحد يعرفه ألف ألف عالم، ويفرح بمعرفته ويلتذّ به ولا ينقص لذَّة واحدة بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الإفادة والاستفادة، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأنَّ مقصدهم بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً فيه بل يزيد الأُنس بكثرتهم.
          نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأنَّ المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنه يد الآخر، وكذلك الجاه إذ معناه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص منه لا محالة فيكون ذلك سبباً للمحاسدة.
          وأمَّا العلم فلا نهاية له ولا يتصوّر استيعابه، فمن بذل جهده في تحصيله وأشغل نفسه في الفكرة في جلالة الله وعظمته صار ذلك ألذّ عنده من كلّ نعيم ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق، لأنَّ غيره لو عرف أيضاً مثل معرفته لم ينقص لذّته بل زادت لذّته
          71
          بمؤانسته بل مثل العالمين بالحقيقة المتمسّكين بالطريقة كما قال الله تعالى عنهم: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾68.
          فهذا حالهم في الدنيا، فماذا تظنّ عند انكشاف الغطاء ومشاهدة المحبوب في العقبى، فلا محاسدة في الجنَّة أيضاً، إذ لا مضايقة فيها ولا مزاحمة، فعليك أيّها الأخ وفَّقنا الله وإيَّاك، إن كنتَ بَصيراً وعلى نفسك مشفقاً، أن تطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذَّةً لا مكدّر لها، والله ولي التوفيق.
          الثالث: في إشارة وجيزة إلى الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب:
          إعلم أنَّ الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تُداوى أمراض القلب إلاَّ بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعلم يقيناً أنَّ الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، ولا ضرر به على المحسود في الدنيا ولا في الدين، بل ينتفع به فيهما.
          ومتى عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدوّ نفسك وصديق عدوّك فارقتَ الحسد لا محالة. أمَّا كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنَّك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى وكرهت نعمته التي قسمها لعباده وعدله الذي أقامه في ملكه لخفيّ حكمته واستنكرت ذلك واستَشْنَعْتَه.
          72
          وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الايمان، وناهيك بها جناية على الدّين، وقد انضاف إليه أنَّك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبّهم للخير لعباد الله وشاركت إبليس وسائر الكفَّار في محبّتهم للمؤمنين البلاء وزوال النعم.
          وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب وتمحوها كما يمحو الليل النهار.
          وأمَّا كونه ضرراً عليك في الدُّنيا، فهو أنَّك تتألَّم بحسدك وتتعذَّب به ولا تزال في كدر وغمّ إذ أعداؤك لا يخليهم الله عن نِعَم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذَّب بكلّ نعمة تراها، وتتألَّم بكلّ بليَّة تنصرف عنهم، فتبقى مغموماً محروماً، منشعب القلب، ضيّق النفس، كما تشتهيه لأعدائك، وكما يشتهي أعداؤك لك، فقد كنت تريد المحنة لعدوّك فتنجَّزت في الحال محنتك وغمُّك نقداً ولا تزول النعمة عن المحسود بحسدك. ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته وعدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة، فما أعجب من العاقل أن يتعرَّض لسخط الله من غير نفع يناله، بل مع ضرر يحتمله، وألم يقاسيه، فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة.
          وأمَّا أنّه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه، فواضح لأنَّ
          73
          النعمة لاتزول عنه بحسدك، بل ما قدّره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بدَّ وأن يدوم الى أجل قدّره الله تعالى، فلا حيلة في رفعه وإن كانت النعمة قد حصلت بسعيه من علم أو عمل فلا حيلة في دفعه أيضاً، بل ينبغي أن تلوم أنت نفسك حيث يسعى وقعدت، وشمَّر وكسلت، وسهر ونمت وكان حالك كما قيل:
          هلاَّ سعوا سعي الكرام فأدركوا أو ســلَّمــــوا لمـــواقــــع الأقـــــــــدار
          ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود من ضرر في الدنيا ولا كان عليه إثمٌ في الآخرة، ولعلَّك تقول: ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي.
          وهذا غاية الجهل والغباوة، فإنَّه بلاءٌ تشتهيه أوَّلاً لنفسك، فإنَّك لا تخلو أيضاً من عدوّ يحسدك فلو كانت النعم تزول بالحسد لم يُبقِ الله عليك نعمة ولا على الخلق نعمة حتى نعمة الإيمان لأنَّ الكفَّار يحسدون المؤمنين عليه، قال الله تعالى: ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾69.
          وإن اشتهيت أن تزول نعمة الغير عنه بحسدك ولا تزول عنك بحسد الغير، فهذا غاية الجهل والغباوة، فإنَّ كلَّ واحدٍ من حمقاء الحسَّاد أيضاً يشتهي أن يخصّ بهذه الخاصة
          74
          ولست بأولى من غيرك، فنعمة الله عليك في آنٍ لم تزل نعمة عليك بحسد غيرك من النعم التي يجب عليك شكرها وأنت بجهلك تكرهها.
          وأمَّا أنَّ المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح.
          وأمَّا منفعته في الدين فهو أنَّه مظلوم من جهتك لا سيَّما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك سرّه وذكر مساوئه، فهي هدايا تهديها إليه، فإنَّك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مُفلساً محروماً عن النعمة كما خرجت في الدنيا محروماً عن النعمة، فكأنَّك أردت زوال النعمة عنه فلم يزل نعمه وكان عليك نقمة إذ وفَّقك الله للحسنات فنقلتها إليه فأضفت له نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة.
          وأمَّا منفعته في الدُّنيا فهو أنَّ أهمَّ أغراض الخلق مساءة الأعداء، وغمّهم وشقاوتهم وكونهم معذّبين مغمومين فلا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غمّ وحسرة بسببهم وقد فعلت في نفسك ما هو مرادهم.
          وقد قال علي عليه السلام : "لا راحة للحسود"70.
          وقال عليه السلام : "الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له"71.
          75
          وقد عرفت من تضاعيف هذه المباحث وجه الكلمتين، ومن أجل ذلك ينبغي أن لا تشتهي أعداؤك موتك، بل تشتهي أن تطول حياتك في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله تعالى عليهم فينقطع قلبك حسداً، ولذلك قيل:
          لا مات أعـداؤُكَ بل خلّـدوا حتَّى يَروْا منكَ الَّذِي يَكْمـدُ
          لا زلتَ محسوداً على نِعْمَةٍ فـإنَّمــا الكـامـلَ مـن يُحْسَــدُ
          ففرح عدوّك بغمّك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته.
          فإذا تأمَّلت هذا عرفت أنَّك عدوّ نفسك، وصديق عدوّك، إذ تعاطيت مع ما تضررّت به في الدنيا والآخرة، وانتفع به عدوّك في الدنيا والآخرة، وصرتَ شقيّاً عند الخلق والخالق، مذموماً في الحال والمآل.
          ثمَّ لم تقتصر على تحصيل مراد عدوّك حتى أدخلت أعظم السرور على إبليس الذي هو من أعدى أعدائك لأنَّك لم تحبّ ما أحبّه أهل الخير لأنفسهم، فتكون معهم لأنَّ المرء مع من أحبّ فأحبّك إبليس لذلك فكنت معه.
          وقد تضافرت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنَّ المرء مع من أحب72، وأنَّك وإن لم تكن عالماً ولا متعلِّماً فكن محبَّاً، فقد فاتك بحسدك ثواب الحبّ واللحاق بهم، وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحبّ أن يخطىء في دين الله وينكشف
          76
          خطؤه ليفتضح وتحبّ أن يعرض له ما يمنعه عن العلم والتعليم، وأيّ إثم يزيد على هذا فليتك إذا فاتك اللحاق بهم ثم اغتممت به فاتك الإثم وعذاب الآخرة. وقد جاء في الأحاديث أنَّ أهل الجَّنة ثلاثة: المُحسن والمحبّ له والكافّ عنه73، أي من يكفّ عنه الأذى والحسد والبغض. فانظر كيف أبعدكَ إبليس عن المداخل الثلاثة، فقد نفذ عليك حسد إبليس وما نفذ حسدك على عدوّك بل على نفسك، فلو انكشفت حالك لك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي عدوّه بحجارة ليصيب بها مقلته فلا يصيبه بل يرجع حجره على حدقته اليمنى فيعميها فيزداد غضبه ثانياً فيعود الى الرمي أشدّ من الأول فيرجع على عينه الأخرى فيعميها فيزداد غضبه فيعود ثالثة فيرجع على رأسه فيشجّه وعدوّه سالم على كلّ حال، وأعداؤه حوله يفرحون بما أصابه ويضحكون منه.
          فهذه حال الحسود، لا بل حاله أقبح، لأنّ الحجر المفوّت للعين إنَّما يفوّت ما لو بقي لفات بالموت لامحالة بخلاف الإثم الحاصل للحسود فإنَّه لا يفوت بالموت، بل يسوقه إلى غضب الله وإلى النار، فلئن تذهب عينه في الدنيا خير من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيعميها لهيب النار، فانظر كيف انتقام
          77
          الله تعالى من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود، فأزالها عن نفسه إذ السلامة من الإثم نعمة، ومن الغمّ نعمة أخرى، وقد زالتا منه تصديقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الـْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ﴾74.
          وربما يبتلى بعين ما يشتهيه لعدوّه إذ قلَّ ما شمت شامت بمساءة أحد إلاَّ وابتلى بمثلها، فهذه هي الأدوية العلمية، فمهما تفكَّر الانسان فيها بذهنٍ صافٍ وقلبٍ حاضرٍ انطفأ من قلبه نار الحسد، وعلم أنَّه مُهلكٌ نفسه، ومفرّح عدوّه، ومسخط ربّه، ومنغّص عيشه.
          وأما الدواء العملي فبعد أن يتدبّر ما تقدَّم ينبغي أن يكلّف نفسه نقيض ما يبعثه الحسد عليه، فيمدح المحسود عند بعثه على القدح ويتواضع له عند بعثه على التكبّر ويزيد في الإنعام عند بعثه على كفّه فينتج هذه المقدّمات تمام الموافقة وتنقطع مادَّة الحسد ويستريح القلب من ألمه وغمّه. فهذه أدوية نافعة جدَّاً إلاَّ أنها مرَّة جداً، لكن النفع في الدواء المرّ، ومن لم يصبر على مرارة الدواء لم يظفر بحلاوة الشفاء.
          والباعث على هذه الخصال الحميدة، الرغبة في ثواب الله تعالى، والخوف من عقابه، وفَّقنا الله وإياكم لاستعماله بمحمد وآله صلَّى الله عليهم أجمعين.
          78
          هوامش
          1- إحياء علوم الدين، ج3، ص051.
          2- القلم:11.
          3- القلم:31.
          4- الهمزة، رقم1.
          5- التحريم:01.
          6- الترغيب والترهيب، ج3، ص694.
          7- العوالي، ج1، ص662، ح85.
          8- العوالي، ج1، ص001، ح12 وإحياء علوم الدين، ج3، ص641.
          9- إحياء علوم الدين، ج3، ص641، وانظر الخصال، ج1، ص68.
          10- إحياء علوم الدين، ج3، ص741.
          11- إحياء علوم الدين، ج3، ص741.
          12- إحياء علوم الدين، ج3، ص741.
          13- الكافي، ج2، ص963.
          14- الكافي، ج2، ص963.
          15- انظر إحياء علوم الدين، ج3، ص741.
          16- إحياء علوم الدين، ج3، ص741.
          17- الحجرات:6.
          18- لقمان:71.
          19- الحجرات:21.
          20- الحجرات:21.
          21- إحياء علوم الدين، ج3، ص841، وانظر الاختصاص، ص241.
          22- الحجرات:6.
          23- القلم:11.
          24- إحياء علوم الدين، ج3، ص841.
          25- إحياء علوم الدين، ج3، ص841.
          26- إحياء علوم الدين، ج3، ص841.
          27- إحياء علوم الدين، ج3، ص841.
          28- البقرة:72.
          29- الشورى:24.
          30- إحياء علوم الدين، ج3، ص841.
          31- إحياء علوم الدين، ج3، ص841.
          32- إحياء علوم الدين، ج3، ص941.
          33- إحياء علوم الدين، ج3، 941.
          34- الخصال، ج1، ص83، ح81، وإحياء علوم الدين، ج3، ص941.
          35- إحياء علوم الدين، ج3، ص051.
          36- إحياء علوم الدين، ج3، ص051.
          37- إحياء علوم الدين، ج3، ص051.
          38- إحياء علوم الدين، ج3، ص051.
          39- الخصال، ج1، ص73، ح61.
          40- عقاب الأعمال، ص713، ح3.
          41- عقاب الأعمال، ص713، ح4.
          42- عقاب الأعمال، ص713، ح5.
          43- انظر نهج البلاغة، ص725، حكمة 592.
          44- إحياء علوم الدين، ج3، ص051.
          45- إحياء علوم الدين، ج3، ص151.
          46- الفلق:5.
          47- تنبيه الخواطر، ج1، ص621، وانظر جامع الأخبار، ص681.
          48- تنبيه الخواطر، ج1، ص721.
          49- إحياء علوم الدين، ج3، ص771، وتنبيه الخواطر، ج1، ص721.
          50- انظر عدَّة الداعي، ص822.
          51- مصباح الشريعة، ص401.
          52- تنبيه الخواطر، ج1، ص621.
          53- جامع الأخبار، ص681.
          54- غرر الحكم، ص525 "لا راحة لحسود".
          55- إحياء علوم الدين، ج3، ص871.
          56- المطففين:62.
          57- إحياء علوم الدين، ج3، ص081.
          58- إحياء علوم الدين، ج3، ص081.
          59- إحياء علوم الدين، ج3، ص971.
          60- الحديد:12.
          61- آل عمران:811.
          62- الزخرف:13.
          63- يس:51.
          64- المؤمنين:74.
          65- المؤمنين:43.
          66- الاسراء:49.
          67- الأعراف:36.
          68- الحجر:74.
          69- آل عمران:96.
          70- غرر الحكم، ص525.
          71- جامع الأخبار، ص681.
          72- إحياء علوم الدين، ج3، ص681.
          73- إحياء علوم الدين، ج3، ص781.
          74- فاطر:34.
          يتبع

          تعليق


          • #6
            لفصل الخامس: في كفّــارة الغيبــة

            اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج من حقّ الله تعالى، ثمَّ يستحلّ المغتاب عنه ليُحلَّه فيخرج عن مظلمته، وينبغي أن يستحلّه وهو حزينٌ متأسّف نادم على فعله، إذ المرائي قد يستحلّ ليظهر من نفسه الورع، وفي الباطن لا يكون نادماً، فيكون قد قارن معصية أخرى، وقد ورد في كفَّارتها حديثان:

            أحدهما: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "كفَّارة من استغبته أن تستغفر له"1.

            الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض ومال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينارٌ ولا درهم يؤخذ من حسناته، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فيزيد على سيّئاته"2.

            79

            ويمكن أن يكون طريق الجمع حمل الاستغفار له على من لم يبلغ غيبته المغتاب فينبغي الاقتصار على الدعاء له والاستغفار لأن في محالَّته إثارة للفتنة وجلباً للضغائن. وفي حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول اليه بموت أو غيبة وحمل المحالة على من يمكن التوصّل إليه مع بلوغه الغيبة. ويستحبّ للمستعذر إليه قبول العذر والمحالة استحباباً مؤكداً، قال الله تعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ﴾3 الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبرائيل ما هذا العفو؟ قال: "إنَّ الله يأمرك أن تعفو عن من ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك"4.

            وفي خبر آخر: "إذا جيء الأمم بين يدي الله تعالى يوم القيامة نُودُوا: ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلاَّ من عفى في الدُّنيا"5.

            وروي عن بعضهم أنَّ رجلاً قال له: أنَّ فلاناً قد إغتابك، فبعث إليه طبقاً من الرّطب وقال: بلغني أنَّك قد أهديت إليَّ حسناتك، فأردت أن أُكافيك عليها، فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافيك على التمام6. وسبيل المعتذر أن يُبالغ في الثناء عليه والتودّد ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب كان اعتذاره وتودّده حسنة محسوبة له، وقد تقابل سيّئة الغيبة في القيامة.

            80

            ولا فرق بين غيبة الصغير والكبير، والحيّ والميّت، والذكر والأنثى، وليكن الاستغفار والدُّعاء له على حسب ما يليق بحاله، فيدعو للصّغير بالهداية وللميّت بالرحمة والمغفرة، ونحو ذلك.

            ولا يسقط الحقّ بإباحة الانسان عرضه للناس، لأنَّه عفو عمَّا لم يجب، وقد صرَّح الفقهاء بأنَّ من أباح قذف نفسه لم يسقط حقَّه من حدّه، وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إنِّي تصدّقت بعرضي على الناس"7.

            معناه إنّي لا أطلب مظلمته في القيامة ولا أخاصم عليها لا ان صارت غيبته بذلك حلالاً، وتجب النية لها كباقي الكفَّارات والله الموفّق.

            وأما الخاتمة:

            فاعلم وفَّقك الله تعالى وإيَّانا أنَّ الغرض الكلّي للحق تعالى من الخلق، والمقصد الأول من بعثة الأنبياء والرسل بالكتب الإلهية والنواميس الشرعية، إنَّما هو جذب الخلق إلى الواحد سبحانه ومعالجة نفوسهم من داء الجهل، والتفاتها الى دار القرار ورفضها لهذه الدار وحمايتها أن ترد موارد الهلاك إذا

            81

            كانت من ذلك على خطر، وتشويقها إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

            ثُمَّ ما يلزم ذلك المقصود من تدبّر أحوال المعاش البدني وسائر أسباب البقاء للنوع الانساني، وكان ذلك موقوفاً على الاجتماع والتعاون والتعاضد بالتعلّم والتعليم وتذكير المعارف للعاقل بالعهد القديم واستعانة كلّ واحد بالآخر في تحصيل نفعه إذ كان الانسان مدنيّاً بطبعه لا يستقلّ وحده بتحصيل معاشه ولا يقدر على استنباط جميع أغراضه من مأْكله ورياشه، فلا جرم توقّفَ غرض الحكيم جلّ جلاله على الاجتماع وتألّف القلوب والموادّة حالتي الحاضر والغيوب، فلذلك تضافرت الأخبار والآثار بالحثّ على المودّة والنَّهي عن المباينة والمحادَّة وأكثر على عباده لبعضهم بعضاً الحقوق وحذَّرهم من الكفران والعقوق ووعدهم على التآلف والتعاطف جزيل الثواب وأوعدهم على ترك ذلك مزيد النكال والعقاب، كما ستقف عليه إن شاء الله في ضمن ما نورده من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأخيار الأطهار، ولنذكر ما يناسب هذه الرسالة اثني عشر حديثاً للاختصار، ومن أراد الغاية في ذلك فليطالعه من كتب المصنّفة فيه ككتاب الإخوان للصدوق ابن بابويه، وكتاب الإيمان، وكتاب العشرة، وغيرهما من كتاب الكافي للكليني فإنَّ فيها بلاغاً وافياً لأهل الاعتبار ودواءً شافياً لأولي الأبصار.

            82

            الحديث الأول:

            أخبرنا الشيخ السعيد المبرور نور الدين عليّ بن عبدالعالي الميسي قدّس سرّه ونوَّر قبره، إجازة عن شيخه المرحوم المغفور شمس الدين محمد بن المؤذّن الجزيني عن الشيخ ضياء الدين علي، ولد الامام العلاَّمة المحقق السعيد شمس الدين أبي عبدالله الشهيد محمد بن مكّي عن والده المذكور، عن السيّد عميد الدّين عبدالمطلب والشيخ فخر الدين ولد الشيخ الامام الفاضل العلاَّمة محيي المذهب جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر عن والده المذكور عن جدّه السعيد سديد الدّين يوسف بن عليّ بن المطهّر عن الشيخ المحقق نجم الدين جعفر بن الحسن بن سعيد الحلّي جميعاً عن السيّد محيي الدين أبي حامد محمد بن عبدالله بن عليّ بن زهرة الحلّي، عن الشريف الفقيه عزّ الدين أبي الحرث محمد بن الحسن الحسيني البغدادي، عن الشيخ قطب الدين أبي الحسين بن سعيد بن هبة الله الراوندي، عن الشيخ أبي جعفر محمد بن عليّ بن المحسن الحلبي، عن الشيخ الفقيه أبي الفتح محمد بن عليّ الكراجكيّ، قال: حدثني أبو عبدالله الحسين بن محمد بن الصيرفي البغدادي، قال: حدَّثني القاضي أبو بكر محمد بن الجعابي، قال: حدَّثنا أبو محمد القاسم بن محمد بن جعفر من ولد عمر بن عليّ عليه السلام : قال: حدَّثني أبي عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ، قال عليه السلام : قال

            83

            رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "للمؤمن على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلاَّ بأدائها أو العفو، يغفر زلّته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويردُّ غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته ويرعي ذمّته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويجيب دعوته، ويقبل هديّته، ويكافىء صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالَّته، ويردّ سلامه، ويطيّب كلامه، ويبرّ انعامه، ويصدّق أقسامه، ويواليه ولا يعاديه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأماَّ نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه، وأمَّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه ولا يسلمه ولا يخذله، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه"8.

            ثم قال عليه السلام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالب به يوم القيامة فيقضى له عليه"9.

            الحديث الثاني:

            وبالإسناد المتقدّم إلى السيّد محيي الدين زهرة، قال: أخبرني أبو الحسن أحمد بن وهب بن سليمان بقراءتي عليه في شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، قال: أخبرنا القاضي فخر الدين

            84

            أبو الرضا سعيد بن عبدالله بن القاسم السّهروردي يوم الجمعة سابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وخمسمائة بالموصل، قال: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو بكر وجيه طاهر الشحاميّ بقراءتي عليه يوم الأربعاء خامس شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، قال: أخبرنا الشيخ الزكيّ أبو حامد أحمد بن الحسن الأزهري، قال: أخبرنا الشيخ أبو محمّد الحسن بن أحمد بن محمّد بن الحسن بن علي مخلّد المخلّدي العدل، قرأه عليه فأقرَّ به، قال: أخبرنا العباس محمد بن اسحاق بن إبراهيم الثقفي السرّاج في ما قرأته عليه لسنة اثني عشر وثلاثمائة فأقرَّ به.

            وقال نعم، قال: حدَّثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدَّثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه، من كان في حاجة أخيه كان الله له في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج الله عنه بها كربة من كُرَبِ يَوم القيامة، ومن سَتَرَ مُسلماً، سَتَره الله يوم القيامة"10.

            الحديث الثالث:

            وبالإسناد المتقدّم إلى السيّد محيي الدين قال: أخبرنا القاضي شيخ الاسلام أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم،

            85

            بقراءتي عليه في الرابع عشر من جمادي الآخرة من سنة ثمان عشرة وستمائة، قال: أخبرنا القاضي الإمام فخر الدين أبو الرضا سعيد بن عبدالله بن القاسم السهروردي سماعاً عليه في الجمادي الأخرى سنة أربع وسبعين وخمسمائة، قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو الفتح محمد بن عبدالرحمن الخطيب الكشمهيني بقراءتي عليه يوم السبت سابع عشر شوَّال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.

            قال: أخبرنا الشيخ أبو القاسم هبة الله بن عبدالوارث بن عليّ بن أحمد الشيرازي أو كتبه لي بخطّه في شهر ربيع الأول سنة ستّ وثمانين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو نصر أحمد بن عبدالباقي بن الحسن بن طوق المعدّل، قال: أخبرنا أبو القاسم نصر بن أحمد بن محمد الفقيه.

            قال: أخبرني أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلّي التميمي.

            قال هبة الله: وأخبرنا أبو القاسم عبد العزيز علي بن أحمد السكري، قال: أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبدالرحمن بن العباس المخلص، قال: حدَّثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، قال: حدَّثني عبد الأعلى بن حماد التونسي، قال: حدَّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلمَّا أتى عليه

            86

            قال: أين تريد؟ قال: أردت أخاً لي في قرية كذا وكذا، قال له: هل لك عليه من نعمة تريها، قال: لا إلاَّ انّي أحبّه في الله قال: إنّي رسول الله إليك إنَّ اللَّه تعالى قد أحبّك كما أحببته فيه"11.

            الحديث الرابع:

            وبالإسناد المتقدّم إلى القاضي فخر الدين السهروردي قال أخبرنا الشيخ الحافظ ثقة الدين أبو القاسم زاهر بن طاهر بن محمد الشحَّام قراءة عليه وأنا أسمع يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شوَّال سنة خمس وعشرين وخمسمائة ببغداد.

            قال: أخبرنا الشيخ أبو نصر عبدالرحمن بن عليّ بن موسى، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت القزويني ببغداد، قال: حدَّثنا أبو اسحاق ابراهيم بن عبدالصمد الهاشمي املاءً، قال: حدَّثني أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهريّ عن مالك بن أنس، عن أبي شهاب، عن أنس بن مالك، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال"12.

            87

            الحديث الخامس:

            وبالاسناد المتقدّم إلى الشحّامي قال: أخبرنا الشيخ أبو سعيد محمد بن عبدالعزيز الصفّار، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبدالرحمن محمد بن الحسن السَّلمي، قال: أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن محبوب، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن يحيى، قال: حدَّثنا محمد بن الأزهري، قال: حدَّثنا محمد بن عبدالله البصري، قال: حدَّثنا يعلى بن ميمون، قال: حدَّثنا يزيد الرّقاشي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من ألطف مؤمناً أو قام له بحاجةٍ من حوائج الدنيا والآخرة صغر ذلك أو كبر كان حقاً على الله أن يخدمه خادم يوم القيامة"13.

            الحديث السادس:

            وبالاسناد المتقدّم الى السلمي قال: أخبرنا عبدالعزيز بن جعفر بن محمد بن الحرابي ببغداد، قال: حدثنا محمد بن هارون بن بريّة، قال: حدَّثنا عيسى بن مهران، قال: حدَّثنا الحسن بن الحسين، قال: حدَّثنا الحسين بن زيد، قال: قلت لجعفر بن محمد: جعلت فداك، هل كانت في النبيّ مُداعبة؟ فقال: لقد وصفه الله بخلق عظيم في المداعبة، وإنَّ الله بعث

            88

            أنبياءه فكانت فيهم كزازة، وبعث محمَّداً بالرّأفة والرحمة، وكان من رأفته لأمّته مداعبته لهم لكي لا يبلغ بأحد منهم التعظيم حتى لا ينظر إليه.

            ثمَّ قال: حدَّثني أبي محمد عن أبيه علي عليه السلام عن أبيه الحسين عليه السلام عن أبيه علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليُسرُّ الرجل من أصحابه إذا رآه مغموماً بالمداعبة وكان يقول: "إنَّ الله يبغض المعبس في وجه إخوانه14.

            الحديث السابع:

            وبالاسناد المتقدّم إلى شيخ المذهب ومحييه ومحقّقه جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر عن والده السعيد سديد الدّين يوسف بن المطهّر، قال: أخبرنا الشيخ العلاَّمة النسّابة فخار بن المعد الموسوي عن الفقيه سديد الدين شاذان بن جبرائيل القمّي عن عماد الدين الطبري عن الشيخ أبي علي الحسن بن الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي عن والده الشيخ قدّس الله روحه عن الشيخ المفيد محمّد بن محمد بن النعمان، عن الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، عن الشيخ أبي عبدالله جعفر بن قولويه، عن الشيخ أبي عبدالله محمد بن يعقوب الكليني، عن

            89

            محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن عبدالله بن بكر، عن معلَّى بن خنيس، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، قال: قلت له ما حقّ المسلم على المسلم؟ قال: "له سبعة حقوق واجبات، ما منها حقٌ إلاَّ وهو واجب إن ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه نصيبٌ".

            قلت له: جعلت فداك، وما هي؟ قال: يا معلَّى إنِّي عليك شفيقٌ أخاف أن تضيّع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل، قال: قلت لا قوَّة إلاَّ بالله. قال:
            الحق الأول: أيسرَُ حقّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك.

            والحقّ الثاني: أن تتجنَّب سخطه وتتّبع مرضاته وتطيع أمره.
            والحق الثالث: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك.
            والحقّ الرابع: أن تكون عينه ومرآته ودليله.
            والحقّ الخامس: أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.
            والحقّ السادس: أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب لك أن تبعث إليه خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهّد فراشه.

            90

            والحقّ السابع: أن تبرّ قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مرضته، وتشهد جنازته، وإذا عَلِمْتَ أنَّ له حاجة فبادر إلى قضائها، ولا تلجئه إلى أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك15.

            الحديث الثامن:

            وبالاسناد إلى محمد بن يعقوب الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن محمد بن مروان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "إذا مشى الرجل في حاجة أخيه المؤمن تُكتب له عشر حسنات، وتُمحا عنه عشر سيِّئات، وتُرفعُ له عشر درجات ولا أعلمه، إلاَّ قال ويعدل عشر رقبات، وأفضل من اعتكاف شهر في المسجد الحرام"16.

            الحديث التاسع:

            بالاسناد عن الكليني ، عن علي بن إبراهيم بن الهاشم القمّي ، عن أبيه، عن محمد بن أبي عميد، عن حسين بن أبي نعيم، عن مسمع بن أبي سيَّار، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: "مَن نفَّس عن مؤمن كربة، نفَّس الله عنه

            91

            كربةً يوم القيامة، وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد، ومن أطعمه من جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنَّة، ومن سقاه شربةً سقاه الله من الرحيق المختوم"17-18.

            الحديث العاشر:

            رويناه بأسانيد متعدّدة أحدها الاسناد المتقدم في الحديث السابع إلى الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن أبيه عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه محمد بن عيسى الأشعري، عن عبدالله بن سليمان النوفلي، قال: كنت عند جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، فإذا بمولى لعبدالله النجاشي قد ورد عليه، فسلَّم وأوصل إليه كتاباً، ففضّه وقرأه، فإذا أوَّل سطر فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله تعالى بقاء سيّدي وجعلني من كلّ سوءٍ فداه، ولا أراني فيه مكروهاً، فإنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

            واعلم سيّدي ومولاي انّي بُليت بولاية الأهواز، فإن رأى سيّدي أن يحدّ لي حدَّاً أو يمثّل لي مثالاً لاستدلّ به على ما يقرّبني إلى الله عزَّ وجل وإلى رسوله ويلخّص في كتابه ما يرى الى العمل به وفيما تبدله (ابذله) له وابتدله، وأين أضع

            92

            زكاتي، وفيمن أصرفها، وبمن آنِسُ، وإلى مَن أستريح، وبمن أثق وآمِنُ وألجأ إليه في سرِّي، فعسى الله أن يخلّصني بهدايتك ودلالتك فإنَّك حُجَّة الله على خلقه وأمينه في بلاده ولا زالت نعمته عليك. كذا بخطّه.

            قال عبدالله بن سُليمان: فأجابه أبو عبدالله عليه السلام : "بسم الله الرحمن الرحيم، جامَلك اللَّه بصنعه ولطف بمنِّه وكلاك برعايته فإنَّه وليُّ ذلك.

            أما بعد فقد جاءني رسولك بكتابك فقرأته وفهمته ما فيه وجميع ما ذكرته وسألت عنه وزعمت أنّك بُليت بولاية الأهواز فسرَّني ذلك وساءني، وسأخبرك بما ساءني من ذلك وما سرَّني إن شاء الله تعالى. فأمَّا سُروري بولايتك فقلت عسى الله أن يغيث الله بك ملهوفاً من أولياء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويعزّ بك ذليلهم، ويكسو بك عاريهم، ويقوّي بك ضعيفهم، ويطفىء بك نار المخالفة عنهم، وأمَّا ما ساءني من ذلك فإنّ أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بوليّ لنا فلا تشمّ رائحة حظيرة القدس، فإنِّي ملخّصٌ لك جميع ما سألت عنه إن أنت عمِلت به ولم تجاوزه رجوت أن تسلم إن شاء الله. أخبَرَنِي يا عبدالله أبي، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لُبّه"19.

            93

            واعلم أنّي سأشير عليك برأيٍ، إن أنت عملت به تخلَّصت ممَّا أنت متخوفه. واعلم أنَّ خلاصك ونجاتك من حقن الدماء (في حقن الدنيا)، وكفّ الأذى عن أولياء الله، والرفق بالرعيَّة، والتأنّي، وحسن المعاشرة من لين في غير ضعف، وشدَّة من غير أنف، ومداراة صاحبك، ومن يرد عليك من رسله، وارتق فتق رعيّتك بأن توقّفهم على ما وافق الحقّ والعدل إن شاء الله تعالى، وإياك والسّعاة وأهل النمايم، فلا يلتزقنّ منهم بك أحد، ولا يراك الله يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً، ولا عدلاً، فيسخط الله عليك ويهتك سترك، واحذر مكر خوز الأهواز، فإنَّ أبي أخبرني عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "إنَّ الايمان لا يثبت في قلب يهودي ولا خوزيّ أبداً20 فأما من تأنس به وتستريح إليه وتلجأ أُمورك إليه فذلك الرجل المستبصر الأمين الموافق لك على دينك وميّز أعوانك وجرّب الفريقين، فإن رأيت هنالك رشداً فشأنك وإيَّاه، وإيَّاك أن تعطي درهماً أو تخلع ثوباً، أو تحمل على دابَّة في غير ذات الله لشاعر أو مضحك، أو ممتزج إلاَّ أعطيت مثله في ذات الله، ولتكن جوائزك وعطاياك وخلعك للقواد والرُّسل والأحفاد وأصحاب الرسائل وأصحاب الشرط والأخماس، وما أردت أن تصرفه في وجوه البرّ والنجاح، والعتق، والصدقة،

            94

            والحج، والمشرب، والكسوة التي تصلّي فيها وتصل بها، والهدية التي تهديها إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أطيب كسبك".

            يا عبد الله اجهـد أن لا تكـنز ذهـباً ولا فضَّـة فتكــون من أهل هذه الآية، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾21، ولا تستصغرنّ من حلو أو فضل طعام تصرفه في بطون خالية يسكن بها غضب الله تبارك وتعالى.

            واعلم أنّي سمعت أبي يحدّث عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأصحابه يوماً: "ما آمَنَ بالله واليوم الآخر مَن باتَ شبعاناً وجارهُ جائع"، فقلنا: هلكنا يا رسول الله، فقال: "من فضل طعامكم ومن فضل تمركم ورزقكم وخلقكم وخرقكم تطفئون بها غضب الربّ"22.

            وسأنبّئك بهوان الدُّنيا وهوان شرفها على ما مضى من السلف والتابعين، فقد حدّثني محمد بن علي بن الحسين عليه السلام قال: لمَّا تجهَّز الحسين عليه السلام إلى الكوفة، أتاه ابن عبَّاس فناشده الله والرحم أن يكون هو المقتول بالطفّ.

            فقال: بمصرعي منك وما وكدي من الدنيا إلاَّ فراقها، ألا أخبرك يا ابن عباس بحديث أمير المؤمنين والدنيا؟ فقال له: بلى لعمري إنِّي لأحبّ أن تحدّثني بأمرها، فقال أبي: قال علي

            95

            بن الحسين عليه السلام سمعت أبا عبدالله يقول: حدَّثني أمير المؤمنين عليه السلام قال: إني كنت بفدك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة عليها السلام ، قال: فإذا أنا بامرأة قد قحمت عليَّ وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها، فلمَّا نظرت اليها طار قلبي ممَّا تداخلني من جمالها فشبّهتها بثيْنة بنت عامر الجمحي، وكانت من أجمل نساء قريش، فقالت: يا ابن أبي طالب هل لك أن تتزوّج بي فأُغنيك عن هذه المسحاة وأدلّك على خزائن الأرض فيكون لك الملكُ ما بقيت ولعقبك من بعدك، فقال لها علي عليه السلام : مَن أنت حتى أخطبك من أهلك؟ فقالت: أنا الدُّنيا، قال لها: فارجعي واطلبي زوجاً غيري، وأقبلتُ على مسحاتي وأنشأت (أقول):

            لَقَدْ خَابَ من غرّته دُنياً دَنِيَّة ومَا هِيَ انْ غَرَّت قُروناً بتائل
            أتتنا على زيّ العزيز بثينة وزينتها في مثل تلك الشمائلِ
            فقلت لها غرّي سواي فانّني عزوفٌ عن الدُّنيا ولست بجاهل
            وما أنا والدُّنيا فإنَّ محمداً أحلَّ صريعاً بين تلك الجنادلِ
            وهيهات أتتني بالكنوز وردّها وأموال قارون ومُلك القبائل

            96

            أليس جميعاً للفناء مصيرها ويطلب من خزَّانها بالطوائل
            فغرّي سوايَ انّي غير راغب بما فيك من مُلكٍ وعزّ ونائلِ
            فقد قنعت نفسي بما قَد رُزِقْتهُ فشأنكِ يا دنيا وأهل الغوائل
            فإنِّي أخافُ يوم لقائِه وأخشى عذاباً دائماً غير زائل23

            فخرج من الدنيا وليس في عنقه تبعة لأحدٍ حتى لقي الله محموداً غير ملوم ولا مذموم.

            ثمّ اقتدت به الأئمّة من بعده بما قد بلغكم لم يتلطّخوا بشيءٍ من بوائقها عليهم السلام أجمعين وأحسن مثواهم. وقد وجّهت إليك بمكارم الدُّنيا والآخرة وعن الصادق المصدّق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن أنت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا ثم كانت عليك من الذُّنوب والخطايا كمثل أوزان الجبال وأمواج البحار رجوت الله أن يتجاوز عنك جلّ وعلا بقدرته، يا عبدالله إيَّاك أن تخيف مؤمناً فإنَّ أبي محمد بن علي عليه السلام حدَّثني عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أنه عليه السلام كان يقول: من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها، أخافه الله يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلّه، وحشره

            97

            الله في صورة الذرّ لحمه وجسده وجميع أعضائه حتى يورده مورده24.

            وحدَّثني أبي عن آبائه عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال: من أغاث لهفاناً من المؤمنين أغاثه الله يوم لا ظلّ إلاَّ ظلّه وآمنه يوم الفزع الأكبر، وآمنه من سوء المنقلب، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى الله له حوائج كثيرة إحداها الجنَّة، ومن كسا أخاه المؤمن من عري، كساه الله من سندس الجنة واستبرقها وحريرها، ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسوّ منها سلك، ومن أطعم أخاه من جوع أطعمه الله من طيِّبات الجنَّة، ومن سقاه من ظمأٍ سقاهُ الله من الرحيق المختوم ريَّهُ، ومن أخدم أخاه أخدمَهُ الله من الوِلدان المخلَّدين وأسكنه مع أوليائه الطاهرين، ومن حمل أخاه المؤمن رحله حمله الله على ناقة من نوق الجنة وباهى به على الملائكة المقرَّبين يوم القيامة، ومن زوَّج أخاه المؤمن امرأةً يأنس بها وتشدّ عضده ويستريح إليها زوَّجه الله من حور العين وآنسه بمن أحبّ من الصدّيقين من أهل بيته واخوانه وآنسهم به.

            ومن أعان أخاه المؤمن على سلطانٍ جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلزلة الأقدام25.

            98

            ومن زار أخاه المؤمن إلى منزله لا لحاجةٍ منه إليه كُتِبٍ من زوّار الله وكان حقاً على الله أن يُكرم زائره26.

            يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عليه السلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول لأصحابه يوماً: "معاشر الناس إنّه ليس بمؤمن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه فلا تتّبعوا عثرات المؤمنين فإنَّه من اتّبع عثرة مؤمن اتّبع الله عثراته يوم القيامة وفضحه في جوف بيته"27.

            وحدَّثني أبي عن آبائه عن علي أنَّه عليه السلام قال: "أخذ الله ميثاق المؤمن أن لا يصدّق في مقالته ولا ينتصف في عدوّه، وعلى أن لا يشفي غيظه إلاَّ بفضيحة نفسه لأنَّ كلَّ مؤمن ملجم وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة. أخذ الله ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها عليه مؤمن مثله يقول بمقالته فيفيه ويحسده، والشيطان يغويه ويمنعه، والسلطان يقفو أثره ويتبع عثراته، وكافر بالذي هو مؤمن يرى سفك دمه ديناً وإباحة حريمه غنماً فما بقاء المؤمن بعد هذا"28.

            يا عبد الله وحدَّثني أبي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزل جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنَّ الله يقرأ عليك السلام ويقول: اشتققت للمؤمن إسماً من أسمائي

            99

            سمّيته مؤمناً فالمؤمن منّي وأنا منه، من استهان بمؤمن فقد استقبلني بالمحاربة29.

            يا عبدالله وحدّثني أبي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال يوماً: "يا عليّ لا تناظر رجلاً حتى تنظر في سريرته فإن كانت سريرته حسنة فإن الله جلَّ وعلا لم يكن ليخذل وليّه، وإن كانت سريرته رديّة فقد يكفيه مساوئه فلو جهدت ان تعمل به أكثر ممَّا عمله من معاصي الله عزَّ وجلَّ ما قدرت عليه"30.

            يا عبدالله وحدّثني أبي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة ليحفظها عليه يريد أن يفضحه بها أُولئك لا خلاق لهم"31.

            يا عبدالله وحدَّثني أبي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام أنه قال: "مـن قـال فـي مـؤمـن مـا رأت عينـاه وسـمعت أذناه ما يشينه ويهدم مروّته فهو من الذين قال الله عزَّ وجل:
            ﴿إِنَّ الـَّـذِيـنَ يُحِبُّـونَ أَن تَشِـيـعَ الْفَـاحِشـَةُ فِـي الَّـذِيـنَ آَمَنُــواْ لَهُـــمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾"32-33.


            100

            يا عبدالله، وحدَّثني أبي عن آبائه عليه السلام عن علي عليه السلام أنَّه قال: من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها أن يهدم مروءته وثلبه أوقبه (أوبقه) الله تعالى بخطيئته حتَّى يأتي بمخرج ممَّا قال ولن يأتي بالمخرج منه أبداً، ومن أدخل على أخيه المؤمن سروراً فقد أدخل على أهل البيت سروراً، ومن أدخل على أهل البيت سروراً فقد أدخل على رسول الله سروراً، ومن أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سروراً فقد سرَّ الله، ومن سرَّ الله فحقيق عليه أن يدخله الجنَّة34.

            ثمَّ إني أُوصيكَ بتقوى الله وإيثار طاعته والاعتصام بحبله فإنَّه من اعتصم بحبل الله فقد هُدي إلى صراط مستقيمٍ، فاتّق الله ولا تؤثر أحداً على رضاه وهواه فإنَّه وصيّة الله جلَّ وعلا الى خلقه لا يقبل منهم غيرها ولا يعظم سواها.

            واعلم أن الخلائق لم يوكّلوا بشيءٍ أعظم من التقوى، فإنه وصيّتنا أهل البيت فإن استطعت من أن لا تنال من الدُّنيا شيئاً تسأل عنه غداً فافعل. قال عبدالله بن سليمان فلمَّا وصل كتاب الصادق عليه السلام الى النجاشي نظر فيه وقال: صدق الله الذي لا إله إلاَّ هو ومولايَ فما عمل أحدٌ بهذا الكتاب إلاَّ نجا، فلم يزل عبدالله يفعل به أيَّام حياته35.

            101

            الحديث الحادي عشر:

            بالاسناد إلى الكليني عن محمد بن يحيى، عن عليّ بن النعمان، عن ابن مسكان، عن خيثمة، قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام أودّعه، قال عليه السلام : يا خيثمة أبلغ من ترى من موالينا السلام وأوصيهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم وأن يتلاقوا في بيوتهم فإنَّ لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا رحم الله عبداً أحيى أمرنا.

            يا خيثمة أبلغ موالينا أن لا يغني عنهم من الله شيئاً إلاَّ بعمل وانّهم لن ينالوا ولايتنا إلاَّ بالورع، وأنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثمَّ خالفه إلى غيره36.

            الحديث الثاني عشر:

            بالاسناد عنه عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن الفضل، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال: كان أبو جعفر صلوات الله عليه يقول: "عظِّموا أصحابكم ووقّروهم ولا يتّهم بعضكم بعضاً ولا تضادّوا ولا تحاسدوا وإيَّاكم والبخل وكونوا عباد الله المخلصين"37.

            102

            وبهذا نختم الرسالة ونبتهل اليه تعالى بفضله العميم وكرمه الجسيم وبمحمد وآله عليهم أفضل الصلاة والتسليم أن يرزقنا العمل بما اشتملت عليه من الكمال، وأن لا يجعل حظَّنا منها مجرّد المقال ويصلحنا لأنفسنا وإخواننا ويصلحهم لنا إنَّه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين والحمدلله رب العالمين، وصلواته على سيّد رسله وخير خلقه محمد وآله الطاهرين.

            103

            هوامش

            1- الحجرات:12
            2- إحياء علوم الدين، ج3، ص541، وانظر الكافي ج2، ص753. وانظر أمالي الشيخ المفيد، ص271.
            3- إحياء علوم الدين، ج3، ص541.
            4- الأعراف:991.
            5- إحياء علوم الدين، ج3، ص641.
            6- إحياء علوم الدين، ج3، ص641.
            7- إحياء علوم الدين، ج3، ص641.
            8- إحياء علوم الدين، ج3، ص641.
            9- كنز الفوائد، ج1، ص603.
            10- كنز الفوائد، ج1، ص703.
            11- العوالي، ج1، ص821.
            12- صحيح مسلم، ج4، ص8891، ح7652.
            13- صحيح مسلم، ج4، ص3891، ح9552.
            14- انظر الكافي، ج2، ص602.
            15- انظر مكارم الأخلاق، ص12.
            16- الكافي، ج2، ص961.
            17- الكافي، ج2، ص691.
            18- الرحيق المختوم: الرحيق من اسماء الخمر يريد خمر الجنة، والمختوم: المصون الذي لم يبتذل من أجل ختامه.
            19- الكافي، ج2، ص002.
            20- انظر البحار، ج27، ص401، ح63.
            21- راجع كتاب الأربعين، (مخطوط).
            22- التوبة:43.
            23- الكافي، ج2، ص866.
            24- انظر مناقب آل أبي طالب، ج2، ص201.
            25- جامع الأخبار، ص451، في إيذاء المؤمن، وانظر الكافي، ج2، ص863.
            26- جامع الأخبار، ص98، في عورة المؤمن أنظر ثواب الأعمال، ص711.
            27- جامع الأخبار،ص09، في ادخال السرور على المؤمن وانظر الكافي، ج2، ص671.
            28- انظر الكافي، ج2، ص553.
            29- انظر البحار، ج57، ص672 نقله عن كتاب الغيبة الملحق بكشف الفوائد.30- انظر البحار، ج57، ص672 نقله عن كتاب الغيبة الملحق بكشف الفوائد.
            30- المصدر نفسه.
            31- انظر البحار، ج57، ص672، وانظر المحاسن، ج1، ص401، ح38.
            32- جامع الأخبار، ص451، في إيذاء المؤمن، وانظر الكافي، ج2، ص753.
            33- النور:91.
            34- جامع الأخبار، ص09، في ادخال السرور على المؤمن، وانظر عقاب الأعمال، ص682، عقاب من روى على مؤمن رواية، وانظر الكافي، ج2، ص291.
            35- الأربعين، ص79، مخطوط، ونقل الحديث بأكمله في البحار، ج57، ص172، ح211 عن كتاب الغيبة الملحق بكشف الفوائد، ص462.
            36- الكافي، ج2، ص571.
            37- الكافي، ج2، ص736.

            تعليق

            المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
            حفظ-تلقائي
            x

            رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

            صورة التسجيل تحديث الصورة

            اقرأ في منتديات يا حسين

            تقليص

            لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

            يعمل...
            X